عكّا | «فلسطيني الهوية ـــــ إسرائيلي المواطنة»، لقد «مللت شخصياً من هذا الموضوع». بهذه الجملة يفتتح القاص الفلسطيني إياد برغوثي (1980) مجموعته «قصص بين البيوت» (دار ملامح/ القاهرة ــ 2011). مقدّمة العمل، رسالة كتبها برغوثي إلى محرّر مجلة «حق العودة» الفلسطينية الشهرية، رداً على طلب لكتابة مقال عن مسألة «فلسطيني الهوية ـــ إسرائيلي المواطنة». اختار القاص أن تكون الرسالة مقدمةً لمجموعته، لإضافة سياق واضح للنصوص، وخصوصاً بالنسبة إلى القارئ خارج الأراضي المحتلة عام 1948. قصص برغوثي، لا تُنقل عبر شاشات التلفزيون، ولا توردها وكالات الأنباء.
تتميز لغته السردية ببساطتها، وباقتباسات من العامية الفلسطينية، وفقاً للمدينة التي تدور فيها الأحداث. تضاف إلى ذلك لغة شعريّة مليئة بالاستعارات، حين يقول مثلاً «كأنّ الريح ما زالت تعزف نشازاً». من خلال 13 قصة قصيرة، يتناول برغوثي حكاية فلسطين من خلال شخصيات بعضها حقيقي، وبعضها متخيّل. تتحوّل فلسطين من رواية وأسطورة وقصة موروثة، إلى حياة شخصيات/ أبطال، بتفاصيل صغيرة، بعيدة عن الشعارات، والغنائيات.
في قصة «وجبة مصيرية»، يأخذنا القاص إلى مدينة عكّا، ليدخلنا حياة سمر وحبيبها خليل. تعاني المدينة البطالة وانتشار آفة المخدرات إلى جانب الاحتلال ومخططات التهويد. علاقة سمر وخليل يرفضها والدها لأن والد خليل، صابر، مدمن على المخدرات. يشرّح برغوثي هذا الرفض الاجتماعي لمدمن المخدرات ـــ الضحية أيضاً ــ الذي ينعكس على مصائر أفراد عائلته. في كلّ القصص التي يحكيها برغوثي، يحضر سؤال البحث عن «البيت». في قصة «الشريط البرتقالي» ــــ والبرتقالي لون يتكرر في معظم قصص المجموعة، لما فيه من دلالة على الدفء، والحنين إلى يافا ــــ تسأل الحبيبة حبيبها البطل: «أين سنسكن؟». يصير السؤال تيمة مركزيّة للقصص، بين بيوت متعدّدة، منها بيوت عاش فيها الكاتب في مسقط رأسه الناصرة، ولاحقاً أثناء دراسته في يافا، وعمله في حيفا، وإقامته في عكّا، حيث يعيش اليوم مع زوجته. مربع المدن السحري هذا (الناصرة، يافا، حيفا وعكّا)، يمثل خلفية هادئة للمجموعة من دون أيّ ثقل للمدن على أحداثها.
يحيل إياد برغوثي في «قصص بين البيوت» على تواصل فلسطينيي الداخل، مع عالمهم العربي، وثقافتهم العربية، رغم انقضاء أكثر من ستين سنة من الاحتلال. في قصة «السماعة»، نقرأ حواراً بين زوجين كبيرين في السنّ عن أصوات غريبة يسمعها الرجل، بسبب سمّاعة أذنه المعطلة. تسأله زوجته: «شو بتسمع؟». فيجيبها: «أغانيَ عربية قديمة... عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش». وفي السياق نفسه، يتطرّق القاص إلى رغبة كلّ فلسطيني في الداخل بالوصول إلى لبنان، البلد الذي يفصله عنه كيلومترات قليلة، ويمنعه جواز سفره الإسرائيلي من الوصول إليه، ليبقى «حُلم زيارة». في نهاية قصة «وحيد في ليلة حرب مملة»، يدندن البطل ألحاناً معروفة على غيتاره، وخلفه: «أضواء مصانع تكرير البترول، ورافعات الميناء، وخليج يصل إلى عكّا، ونهاية جبل تخفي وراءها لبنان». هو المشهد الذي يظهر تماماً في معظم بيوت حيفا الفلسطينية، ومن شبابيكها المتجهة نحو شمال فلسطين.
يبقى هاجس البحث عن بيت مسيطراً في «قصص بين البيوت»... إياد برغوثي وجد منزله على ما يبدو، إذ يهدي العمل «إلى منى، بيتي وزوجتي»، تماماً كالبطل في قصة «الشريط البرتقالي»، الذي يقول لحبيبته: «أنتِ بيتي». كلّ ذلك ليقول لنا إنّ بين هذه البيوت، حياة، لا روايات فقط.