صنعاء | الصديقة اليمنية التي كان يطربها دوران أسطوانة «أنا يا طير» لعاصي الحلّاني في إحدى حانات بيروت، لم تكن تعرف أن تلك الأغنية ليست بالأصل لهذا الفنّان اللبنانيّ وإنما لمطرب عراقي اسمه فؤاد سالم. هي ستعرف هذه الحقيقة لاحقاً، كما ستعلم أن حياتها تكاد تتطابق مع حياة صاحب الأغنية ذاتها، بعد أن لمست بعضاً من تفاصيلها في الظروف التي دفعتها لمغادرة اليمن إلى بلد أوربي والإقامة فيه بسبب انتمائها اليساري، واحتمال تعرض حياتها للخطر في مدينتها الجنوبية عدن.

فؤاد سالم، مع فارق التجربة والقيمة بطبيعة الحال لصالحه، دفع ثمناً غالياً من حياته وذهب لاجئاً إلى عدن، بسبب ميله لأصدقاء ومبدعين شيوعيين من البصرة في زمن البعث العراقي الكابوسي.
كان صاحب «مثل كل العاشقين» قد بدأ الغناء في العام 1963 بنبرة منحازة لصوت المطرب الكبير ناظم الغزالي، قبل أن يحتضنه نادي الفنون في مدينته البصرة. وكان هذا نادياً مؤسّسَاً عن طريق مبدعين وشعراء وعراقيين بدماء شيوعية، وهم من ساعد سالم على إنتاج أوبريت غنائي حمل عنوان «بيادر الخير» وتلاه أوبريت «المطرقة».
لكنّها هنا كانت بمثابة المطرقة الشيوعية التي ستهزّ أيّامه التالية ولن تتركها على حالها. فقد أمعنت العقول البعثية الخطيرة في تأويل «المطرقة». بحثوا في عقل فؤاد سالم، وأدركوا بسليقتهم الشريّرة أنه يريد شرّاً بكيان «البعث العراقي العظيم». دفعه الأذى القاسي واللاحق وحفلات الإعدام التي نفّذها ذلك النظام لرفاقه الشيوعيين إلى التوقف عن الدراسة في معهد الفنون في بغداد، والهروب إلى مدينة عدن اليمنيّة الشيوعية وقتها، وإكمال دراسته هناك. سيعود فؤاد سالم لاحقاً إلى العراق، ويتعرض للأذية ذاتها وإن بدون قتل. تم فصله من وظيفته في معهد الفنون، ومنعه من الغناء في أيّ مكان عام وحتّى من الدخول إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون. وحين وجد صاحب «عميّ يا بيّاع الورد» فرصة للغناء في مكان عام، وجد نفسه في نهاية الحفل على موعد مع أفراد غيورين على مستقبل البعث العظيم فحرصوا على إسالة الدماء من كل نقطة في
جسده.
واقعة أكّدت له بشكل قاطع أن الحياة لم تعد ممكنة في وطنه الذي لم يعد وطنه وصار محتكراً من قبل مجموعة قتلة. لعل نبرة القهر التي ستنبت في داخله ستكون وقوداً لإنتاج عمله الغنائي الأشهر «غريب على الخليج» لبدر شاكر السيّاب الذي تعرّض مثله لتُهمة الشيوعية وكان من البصرة أيضاً.
عام 1982 سيهرب إلى الكويت ومنها سوف يتنقل بين أكثر من بلد خليجي إلى أن ينطلق باتجاه دمشق. في العاصمة السورية، سيبقى، ويعمل ويتزوج وينجب إلى أن تأتيه ساعة موته السبت الماضي. في العامين الأخيرين، ومع صدور ألبوم عاصي الحلاني الذي حمل أغنية «أنا يا طير»، دخل سالم حالة سكون تامّة نتيجة إصابته بتلف في أنسجة الدماغ. ظل يتخاطب مع محيطه عن طريق الاشارة. توالت المناشدات والبيانات في محيط السلطة العراقية التي أتت على عربة الاحتلال الاميركي، لكنّ أحداً لم يسمع تلك النداءات. كأنما مات فؤاد سالم وهو يغنيّ «البحر أوسع ما يكون / وأنت أبعد ما يكون / والبحر دونك يا عراق».