تكشف كتابات «السير الذاتية» عادة وجهاً جديداً لصاحبها. تمنحه فرصة لأن يكون شخصاً حقيقياً مختلفاً عن ذلك الذي يظهر علانية في الحياة. كأنما يستمد قوة وهو في عزلته أمام الورق ليُظهر ما كان مخفياً من سيرته طوال سنواته الماضية. تتضاعف قيمة تلك الكتابة بشكل عام كلما ارتبطت بشخصية تبدي حياة ظاهرية بلا ملامح واضحة، وعصيّة على التفكيك. شخصية يقابلها المرء، فلا يرى في وجهها علامة تقول بحالة واضحة. ويقاس هذا على حياتها كله. تأتي تلك الكتابة كأنما لتوضح حياة أخرى كانت مخفية تحت غطاء تفاصيل الحياة الظاهرة لها. يبدو تصنيف «رواية سيرة ذاتية» الذي حمله كتاب عبده وازن الجديد «غرفة أبي» («منشورات ضفاف» و«الاختلاف») ماثلاً بهذه التسمية غير المستقرة على قاعدة ثابتة يمكن لقارئ السير عليها بثبات أثناء مروره على صفحاتها.
في «غرفة أبي»، يتوزّع النص على شكل سرد لسيرة خالية من سياق تزامني معتاد ومنتظم يتم تقطيعه برسائل وحوارات داخلية واقتباسات هنا وهناك تأتي من نماذج أدبية ذائعة لها علاقة بسيرة الأب وفق ما جاء على لسان أسماء أدبية وفكرية كبيرة من كافكا، وادوارد سعيد، وسهيل ادريس، ومحمد شكري، وأورهان باموق، ودوستويفسكي وسواهم... كل ذلك في محاولة لتفسير فكرة الأب التي لم يتقاطع معها الراوي في حياته بشكل يكفي لتقديم تجربة متكاملة. فكرة تتنوع فيها درجة العلاقات بين الطرفين وتفاوتها بين القسوة واللين والنفور، «كان كافكا في التاسعة عشرة عندما قرّر أن يقاضي أباه».
عليه، يبدو هذا المجال مساحةً واضحة تنجلي فيها نية البقاء في منطقة آمنة عندما يختار الراوي شخصية أبيه المتوفي كي يصبح محوره الشخصي للعمل برمته. أب مضى إلى موته قبل أن يترك تقاطعات قاسية وشوائب واضحة في ذاكرة ولده الذي يحاول استعادة سيرته الآن. سيترك القصص القاسية ترد على لسان الأسماء الأدبية المذكورة في علاقتها مع والدها، على أن تبقى سيرته محميّة بمبرر عدم اكتمالها بسبب وفاة الأب شابّاً. حالة لن يكون ممكناً معها، بطبيعة الحال، انشاء أيّ كتابة انتقامية ضد ذلك الأب الذي يبدو أنه قد نجا بموته المبكر. تظهر كتابة مطمئنة وآمنة يقدر الراوي على تشكيلها في السياق الذي يلائم هواه على عكس النماذج المغايرة التي سترد في العمل ومساحة السرد وسيجلبها الراوي من الأرشيف.
مع ذلك، لا بد من ظهور الراوي بهيئة مَن سيبذل جهداً وشغلاً يخص عملية إعادة إنتاج الأب الذي لا يمتلك شكلاً واضحاً. يفعل ذلك من خلال تتبع العناصر القليلة الباقية معه، انطلاقاً من الغرفة وما تحتويه من آثار تدل على الأب الغائب: «العلبة المملوءة صوراً وأوراقاً وصكوكاً وبينها صور أبي وهي قليلة وبعضها يضمّه مع أمّي في الأعوام الأولى من زواجهما. وهذه كانت الأجمل لأنها تخفي زمناً لم نعرفه أبناء العائلة».
من هنا، تبدأ عملية إعادة تكوين سيرة أب غادر الحياة وهو في الثامنة والأربعين من عمره في حين كان الراوي في العاشرة. لكن الآن، اختلف الأمر «أنا أكتب إليك في الثانية والخمسين. أنت الذي غبت في الثامنة والأربعين. ماذا يمكن أن يكتب الابن إلى أب أضحى أصغر منه؟ إني الآن أكبر منك وسأظل». كتابة ستكون على هيئة رسائل يقوم فيها بمخاطبة أبيه لكنها ليست رسائل تقليدية حيث لا يتوافر مستقبل قائم في سياق عناصر التواصل، فالمُستهدف في الرسالة غائب في موته: «ليس ما أكتبه رسالة إليك، فأنا أعرف جيداً أنك لن تقرأها ليس لأنك لم تكن تُجيد القراءة، مثل أمي، بل لأنها لن تصلك. هل يكتب امرؤ رسالة إلى شخص يعرف أنها لن تصله؟». يمكن هنا تلخيص عملية إعادة تكوين السيرة تلك تحت مسمّى الرواية الحديثة، كي تكون الطرق سالكة لاستخدام الراوي أشكالاً متعددة من مستويات السرد وتقنياته، متنقلاً بين ما يشبه الحكي الروائي والسيرة الصرفة المباشرة وصولاً إلى كتابة تشبه التأملات الذاتية والخواطر اليومية المتسائلة في أسباب الحياة وتداعيتها المؤلمة. كل هذا الخليط يأتي مستنداً على إعلان «رواية سير ذاتية» المُلصق على غلاف الكتاب، لكنّها في نهاية الأمر ليست سيرة.



سيرة «القلب المفتوح»

تعدّ «غرفة أبي» التجربة السردية الثانية لعبده وازن بعد «قلب مفتوح» (الدار العربية للعلوم ناشرون) التي أنجزها عام 2010. في «قلب مفتوح» سرد الشاعر والصحافي اللبناني ذكرياته، بعد عملية القلب المفتوح التي أجراها قبل سنوات، ليأخذنا إلى رحلة طويلة يحكي فيها تجربته وتفاصيل شخصية من حياته، وذكرياته وتأملاته ومراجعاته، كما أعادنا إلى مراحل ومحطات من حياته، من الطفولة إلى الحب الأول والمراهقة والعائلة وموت الأب وكآبة الثلاثين والتفكير في الانتحار. هذه الذكريات ربطها بتساؤلات وجودية وفلسفية وشعرية، ما جعلها سيرة أوسع من حدودها التقليدية.