في بداية الشهر الجاري، امتنعت صحيفة «الأخبار» المصرية عن نشر مقال للشاعر سيد حجاب، بعنوان «مصر تكذب على نفسها». ولم تكمن أهمية الامتناع في كون حجاب شاعراً مصرياً بارزاً، بل في كون حجاب بالتحديد هو من صاغ ديباجة الدستور المصري الجديد المصدَّق عليه شعبياً قبل عامين، والذي لم يكتف بالتشديد على أن مصر «دولة ديمقراطية حكمها مدني»، بل لقد أوقف، أو ظن واضعوه، أنه أوقف نهائياً عقوبة الحبس في جرائم النشر وقضايا الإبداع.ربما لذلك، لذلك الفشل الدستوري في منع الحبس، رفض حجاب التعليق على منع نشر مقاله، كأن نوعاً من الخجل أو خيبة الأمل أصابه، بعد أنه قبل لأول وآخر مرة القيام بدور سياسي، مشاركاً في «لجنة الخمسين» لصياغة الدستور، المنبثقة من تغييرات «30 يونيو» التي أتت بالسيسي ـ في النهاية ـ رئيساً لمصر، متحمساً ـ أي حجاب ـ لدستور عصري مدني يدعم حرية التعبير والإبداع. فإذا بهذا العهد الدستوري يشهد ـ أكثر من غيره ـ أحكام حبس لباحثين وأدباء ومبدعين على نحو غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث، انتهاءً بمنع نشر مقال لسيد حجاب نفسه.
غير أن منع النشر، أو حتى المصادرة (التي كانت في أزمنة سابقة تقيم مصر ولا تقعدها)، لم يعد شيئاً مقارنة بالوجوه الشابة التي تنتظر اليوم إما خلف القضبان أو بالقرب منها. وها هو شهر يمضي على أحمد ناجي في سجن طرة (الأخبار 22/2/2016)، محكوماً بسنتين بتهمة «خدش الحياء». لا يكاد المثقف المصري يصدّق أن هذا يجري فعلاً، رغم الاحتجاجات والبيانات الموقّعة وشهادات المحكمة، بل رغم «البراءة» المسبقة التي استأنفت عليها النيابة. ها هو أديب في السجن يبيت، لا لشيء سوى لكتابته الأدب، وباتهامات لا تختلف في شيء عن اتهامات الأصوليين التي طالما أشارت نحو الروايات إلى أنها «تشيع الفجور وتروج للدعارة»، ولئن حاول بعضهم، بخاصة المثقفين من مؤيدي الدستور الحالي، القول بتعارض حكم المحكمة (بسجن ناجي) مع الدستور المصري، خاصة المادة 67 التي تنص على أنّ «حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة ( ..) ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا من طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري».
قد يكون الأصوليون في السجون، إلا أن أفكارهم لم تعد كذلك

إلا أن المحكمة، ردت عبر حيثياتها، بتعارض ما نشره ناجي علانية من «نصوص تخدش الحياء»، مع المادة العاشرة من الدستور ذاته التي تنصّ على أنّ «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها». ورأت المحكمة أن الحفاظ على تلك الأسرة هو أمر مقدم على «الحفاظ على مصلحة فرد أو طائفة لا غاية لها سوى تحصين نفسها من العقاب أو جعل أنفسهم بمأمن من العقوبات المقيدة للحرية بدعوى حرية الرأي والإبداع»، متسائلة: «فأي إبداع في ما سطره المتهم بكتابة ألفاظ خادشة للحياء داعية إلى نشر الرذيلة والفجور؟». واعتبرت المحكمة أن «المشرّع الدستوري حين نص في المادة 67 من الدستور على حرية الإبداع الفني والأدبي، لم يكن ليقصد حماية هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الكتاب يسعون في الأرض فساداً، ينشرون الرذيلة ويفسدون الأخلاق بأقلامهم المسمومة تحت مسمى حرية الفكر»، وإلا «تناقض مع نفسه حين دعا إلى الحفاظ على الأسرة لأنها أساس المجتمع بالحفاظ على الدين والأخلاق».
هكذا، فإن تلك الفقرة التي بدت بريئة في الدستور، تسعى إلى «تماسك الأسرة وترسيخ قيمها»، سرعان ما كشّرت عن أنيابها لتتخذ ذريعة لسجن روائي شاب، ذلك أنّه لا مكان لـ «البلاغة» و«الإنشاء» في الدساتير. فإذا ظنّ بعضهم أنّ السعي إلى تضمين «قيم الأسرة» في الدستور مجرد تحصيل حاصل لا يؤذي أحداً، فالأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى المحكمة، التي رأت نفسها مسؤولة عن تلك الحماية الأسرية. أما ناجي وزملاؤه المستقبليون، فقد صارت بلاغة المادة العاشرة بالنسبة إليهم قضباناً وزنزانة مظلمة وعمراً مهدراً في سجن طرة.
تساءل كثيرون فور حبس ناجي: ما العمل؟ أنكتفي بالبيانات والاستنكارات؟ الواقع أن ليس في يد المثقفين أكثر من ذلك، لم يكن من قبل ولن يكون من بعد، والفارق، بين ماضٍ وحاضر، هو أنّ الدولة في الماضي كانت «تناور» المثقفين. أما اليوم، فإنها تؤمن حقاً بالأفكار المحافظة التي سجنت ناجي. قد يكون الأصوليون في السجون، إلا أن أفكارهم لم تعد كذلك.