في دمشق، لم تعد هناك أسباب كافية للعيش بقدر ما تجتمع كل الأسباب الموجبة للموت، إما بقذيفة عمياء أو بعبوة ناسفة أو بانفجار دماغ لم يعد يحتمل كل هذه المشاهد المؤلمة لتشييع بلاد بأكملها. تلك هي حال عدد كبير من نجوم الدراما السورية الذين بدأوا موسم الرحيل تباعاً، رغم حاجة سوريا الماسة إليهم في هذا الزمن الرديء.
أمس، رحل بهدوء النجم السوري المخضرم سليم كلاس (1936 ــ 2013) بعدما أصابته قبل يوم واحد سكتة دماغية حين كان يزور مقر نقابة الفنانين في شارع بغداد في دمشق. وسيشيّع اليوم بعد الصلاة عليه في «مسجد مصعب بن عمير» في البرامكة إلى «مقبرة باب الصغير» ليتلقى ذووه العزاء في «صالة النور» في البرامكة.
الرجل السبيعني الذي قدم نفسه في عشرات الأعمال التلفزيونية اشتهر أيضاً بحضوره الدمث وخفة ظله وأناقته وطيبته. في تاريخ الدراما السورية، لم يسجّل له خلاف مع أحد من زملائه. لعلّ المشهد الوحيد الذي خرج فيه كلاس عن طوره كان عندما وقع في فخ الكاميرا الخفية في التسعينيات ضمن برنامج «منكم وإليكم والسلام عليكم» (التلفزيون السوري). يومها، لعب مقدّم البرنامج زياد سحتوت دور منتج تلفزيوني وراح ينظر إلى كلاس من خلال قطعة نقدية، ويقول له إنّه رجل مادي، فما كان من كلاس إلا أن أخرج مبلغاً نقدياً كبيراً من جيبه ورماه في وجه سحتوت وانسحب قبل أن تنتهي اللعبة التي منحت الجمهور فرصة متابعة نجم المسلسلات الشامية غاضباً ولو لمرة واحدة.
لم يتردد الراحل عن كشف جانب خاص من شخصيته المشاغبة أيام دراسته، حتى إنه ذات مرة اقتحم مكتب وزير التربية وشتمه، فطُرد من جميع مدارس القطر ولم يعد إلا بعد وساطات من سياسيين كونه من عائلة دمشقية عريقة وقد عمل والداه في السياسة. المشاغبة تحولت في ما بعد إلى طرافة فريدة من نوعها لازمته طيلة حياته. وكثيراً ما كان يسأل عن سر أناقته، فيجب بأنّ السرّ يكمن في عدم تفكيره في الماضي. المثير في حياة كلاس أنه تاه بين مهن عدة في صغره. عمل في ورشات نجارة وحدادة وميكانيك، قبل أن يتجه إلى العمل في المصارف كونه درس التجارة. بعد ذلك، اخترق أسوار التلفزيون السوري في سنوات تأسيسه الأولى وعمل مقدم برامج ترفيهية، قبل أن ينتسب إلى المسرح القومي ويبدأ المشوار على خشبته. ما يجهله كثيرون أنه شارك الراحل رفيق الصبان في تأسيس «ندوة الفكر والفن» التي قامت بجهد متميز في دعم مسيرة المسرح السوري، وكانت تنتج أعمالاً مسرحية، ولا تكتفي بعقد اللقاءات. أخرج فيها الصبان أعمالاً لشكسبير وسوفوكليس وبرنارد شو، وماريفو. بينما لعب كلاس أدواراً عدة في مسرحيات هامة منها؛ «تاجر البندقية» و«ماكبيث» و«الاعترافات الكاذبة». أما في السينما، فقد قدم أدواراً في «ليل الرجال» و«ناجي العلي» و«شورت وفانيلا وكاب»، لكنّ التلفزيون كان له الحصة الأكبر. منذ «حارة القصر» و«مرايا» و«حمام القيشاني» إلى «أيام شامية» و«الخوالي» و«ليالي الصالحية» ثم «باب الحارة» و«صرخة روح» و«قمر شام»، احتل سليم كلاس مساحته الخاصة في الدراما الشامية، وتحول إلى «راكور» ثابت فيها بعدما برع في تجسيد شخصية الحلاق الذي يحيك القصص ويداوي جراح الناس ويشكّل واجهة من مجتمع الحارة الدمشقية القديمة كما قدمتها عشرات الأعمال.
يأتينا صوت شريكه في الدراما الشامية النجم عباس النوري عبر الهاتف متأثراً. يقول لـ«الأخبار»: «هناك الكثير من الكلام عن الراحل لأنه اختصار لموسوعة تراث الشام، ولأنه كان ينضح بالفطرة بكل ما يملك. عندما كنتُ أصافحه، كنتُ أرى في وجهه انفجار قلبه المنفتح على كل شيء في الحياة التي كان يشبهها ويحصّن نفسه دوماً من أي خطأ قادم» يشرح نجم «طالع الفضة» مضيفاً: «كان يداري أوجاعه حتى لا يشعر بها أحد لأن الإنسانية كانت تطغى على كل شيء في شخصيته، وهذا حقيقة وليس من باب ذكر محاسن الموتى». من جانب آخر، يعترف النوري بأنّه «كان مقرباً منّي كثيراً، وكنت سارقاً حقيقياً للكثير من مفرداته». أما النجم سليم صبري، فيقول لنا من مقر إقامته في الشارقة: «سليم هو رفيق الدرب الطويل ومشوار معرفتي به استمر لعقود طويلة. أكثر ما اشتهر به هو الإجماع المطلق على محبته بسبب لطافته وقلبه الطيب وتعامله الأنيق. إذ لم يتمكن أحد من التقاط خلاف نشب بينه وبين أي من زملائه. لذلك، سيفتقده الجميع مثلما سيفتقدون كل تفاصيلهم السورية الجميلة يوماً بعد يوم». في زمن الهزائم التي تمنى بها الإنسانية في سوريا، يصرّ القدر على أن يثقل على الشام ويُفقدها نجوماً احترفوا تجسيد تراثها بشكل أنيق.




ارقد بسلام أيها الطيب

عبر صفحات الفايسبوك، تسابق نجوم الدراما السورية لنعي سليم كلاس، أمثال: شكران مرتجى، روعة ياسين، باسم ياخور، الماكييرة عبير قضماني والمخرج عامر فهد. وسط ذلك، كان مؤثراً ما كتبه أيمن زيدان على صفحته: «سليم كلاس، لا أدري لمَ ضاقت بك الحياة وأنت تعشقها؟ كنت أكثر من صديق. كي تكتمل مؤامرة الفرح علينا، غيّبك الموت. ارقد بأمان أيها الطيب». أما عبد المنعم عمايري، فقد اختار كعادته مزج استحضار ذاكرة الفرح التي كان يخلقها زميله، فروى لأصدقائه الافتراضيين كيف كان الراحل يمازحه، فيقول له إنّه لا يحتاج إلى مشاهدة التلفزيون طالما أنّه متزوج بالنجمة أمل عرفة، إذ يكفيه أن يتفرج عليها لتغنيه عن متابعة الدراما.