يواصل إنسان أسادور ركوعه أمام الآلة التي تسلبه ملامحه. وقد تتعذر مهمة فصل أعضائه، عن أشكالها التفصيلية وتركيباتها الهندسية الصارمة، التي يرسمها وينقشها متكئاً على أساليب الحفر، والألوان المائية والزيتية وعلى تجربته الشكلية الخارجية في التصميم الغرافيكي. تجربة راكمها منذ تتلمذه عند بول غيراغوسيان في بيروت وجان خليفة في «المعهد الثقافي الإيطالي»، ثم انتقاله للدراسة في «أكاديمية بيلي آرتي بييترو فانوتشي» في إيطاليا عام 1962، ليكمل حياته الفنية بعدها في باريس. بعد هجرات متعددة، داخل اللوحة وخارجها، كان على أسادور السبعيني أن يعود إلى بيروت التي أقام فيها معرضه الأول عام 1964. مهمة تولاها «متحف سرسق» ضمن سياسته الجديدة التي توفّق بين دعم الأعمال الشابة والمعاصرة وعرضها، وبين استعادة تجارب حديثة من المحترف اللبناني عبر مجموعتها الثابتة ومعارضها الموسمية، كما تقول مديرة المتحف زينة عريضة. يستعيد المتحف، الذي أعيد افتتاحه قبل أشهر، تجربة أسادور في معرض فردي بعنوان «أسادور: منظر متحرّك» سيستمر حتى 30 أيار (مايو) في «صالة المعارض الكبرى» في المتحف. أنجزت المنسقة الفنية نورا رازيان مع المنسق الضيف جوزيف طرّاب، ما يشبه خريطة زمنية متحركة لأعمال أسادور وتطورات تجربته الفنية منذ الستينيات حتى 2016. معظم اللوحات المعروضة هي جزء من مجموعة أسادور الفنية التي تصل إلى أكثر من 100 لوحة، منحها بيار قرداحي إلى المتحف عام 1996 قبل وفاته. رافق بيار قرداحي تجربة أسادور، وكان من أبرز المهتمين بها، فجمع أرشيفاً كبيراً من لوحاته. انطلاقاً من هذا الأرشيف، بدأ العمل قبل سبعة أشهر على المعرض.
تقسم تجربته إلى خمس فترات تنوّعت في الأساليب والوسائط والألوان والثيمات

وإذا كان أسادور ابن التجربتين اللبنانية والأرمنية حيث قدم معها ضمن المعرض الجماعي لفنانين أرمن «ولادة أمة جديدة» في «مركز بيروت للمعارض» العام الماضي، فإنه يواصل شتاتاً آخر داخل لوحته التي تسائل علاقة الإنسان بالكون والأسطورة والزمن والتاريخ وتشكلات الهوية. الاحتفال بتجربة أسادور بعد غياب طويل عن الساحة الفنية اللبنانية، يقتضي استعادتها بهذه الدقة المتناهية، وفق خط زمني يقسّم تجربته إلى خمس فترات زمنية قلّب فيها بالأساليب والوسائط والألوان والثيمات. وسط الالتباس الزمني بين الحاضر والأسطورة، وبين الحقائق العلمية المجردة، يواصل أسادور تجريد نماذجه الإنسانية وتغريبها عبر أشكاله الهندسية وخطوطها وتعرجاتها. الأقنعة والوجوه الملتبسة والملامح البشرية لا تحول دون تغييب الإنسان، وامحائه أمام الآلة والعمارة وركام المدن. في المعرض، نرى فترة الستينيات، التي شهدت حفريات أسادور الأولى التي طبعت أسلوبه، وجعلته أبرز المجددين اللبنانيين في هذا النوع. في السبعينيات، بدأ يتبلور أسلوبه في الدمج بين العناصر الكونية والإنسان. توسع اهتمام أسادور بموقع الإنسان من العالم الخارجي الكوني والتحولات المادية في فترة الثمانينيات والتسعينيات، ورافقها تجريب لوني واضح. المحطة اللاحقة كما يحددها المعرض هي الفترة الممتدة من التسعينيات حتى 2010. هنا، لم ينجُ أسادور من تأثيرات البلدان التي عاش فيها من تايلند واليابان في لوحاته. الجسد البشري حاضر مع الأيقونات البوذية والأقنعة القبلية الأفريقية في مواجهة تفوق الآلة والتركيبة المعاصرة الساحقة. بين الشرخ والانصهار، ينسج أسادور الحرفي القوالب والأشكال والهيئات والخطوط لتظهير علاقة الإنسان الحديث الملتبسة مع الخارج. المحطة الأخيرة هي لوحاته الحالية ذات الأحجام الكبيرة التي أحضرها المتحف، وسيشكل وجودها فرصة استثنائية لمتابعة تطور لوحته. إلى جانب عمله كرسام، عمل أسادور كمصمم غرافيكي، فصمم كتباً ومجموعات لشعراء أوروبيين. سنراها معروضة ضمن المتحف، بما يكمل النظرة البانورامية إلى كامل تجربة أسادور. هناك أيضاً فيديو لحوالى 50 دقيقة باللغة الفرنسية بين الناقد الفني والقيم الضيف جوزيف طراب مع أسادور، لقاء سيتكرر مباشرة أمام الجمهور عند الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم في "أوديتوريوم" المتحف (راجع الكادر).