أقل ما يقال عن وثائقي «غزة 36 ملم» (2013) الذي عرض في «مهرجان السينما الأوروبية» في بيروت أنه يخرج عن كل ما هو مألوف وتقليدي في عالم الوثائقي، مقدّماً طرحاً سينمائياً مثيراً للجدل. فيلم المخرج خليل مزين، الذي أُنتج ضمن الدورة الثانية لمبادرة التدريب «دوك ميد»، التي يدعمها «برنامج الأوروميد السمعي البصري»، يتناول موضوع إغلاق الصالات السينمائية في غزة التي جرى تدميرها أو حرقها تدريجاً عبر السنوات من قبل الحركات الإسلامية المتشددة حتى انقرضت من خارطة المدينة.
منذ البداية، يحلّ الفيلم على المشاهد كما الصدمة البصرية بإيقاعه السريع والفجائي ولغته السينمائية الاستثنائية والغريبة التي يصعب مقارنتها بأي عمل آخر من هذا النوع. يقف المشاهد أمام جمالية فجة تحطم كل المعايير المعتادة في السينما وتتسم بألوانها الصارخة وكادراتها المبهمة وإيقاعها التراكمي، الذي يبدو أشبه بذاكرة بصرية شديدة الاضطراب. نرى غزة في هذا الفيلم كأنها شتات بصري عشوائي وعنيف. عبر عدسة المخرج، تبدو حياته وحياة غيره من شباب جيله في غزة كمشهد واحد طويل مبعثر لا تكتمل أجزاؤه أبداً. من خلال هذه اللغة السينمائية التي تبدو فيها الكاميرا مسجونة تبحث عن مخرج من خلال الكادرات التي تتناول أحياناً المكان نفسه من زوايا مختلفة وعبر هذا الإيقاع السريع الذي لا يتنفس، يحاول المخرج أن يجسّد عدواناً من نوع آخر يعيشه سكان غزة لا يقل عنفاً عن الحصار الإسرائيلي. إنّه الحصار البصري الذي يجعل المواطن في القطاع أسير الجسد والمخيلة أيضاً. عبر كل صالات السينما المهجورة والمحطمة الذي يجول عليها المخرج، وما تبقى من آثار لأفلام وحيوات متخيلة عاشها هو ورفاقه في الأفلام التي شاهدوها، يتماهى تاريخ السينما مع تاريخ غزة السياسي وتظهر لنا صور البوسترات الممزقة وشرائط السينما المبعثرة على الأرض كجثث لأحلام الغزاويين التي أجهضتها ديكتاتورية الفكر الديني، إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي. يحاول أبطال الفيلم إعادة تمثيل هذه الحيوات المتخيلة ولو حتى رمزياً. يعيدون تصوير بوسترات الأفلام القديمة ويجسدون فيها حياتهم اليومية في غزة المحاصرة بأسلوب ساخر. على طريقته الخاصة، يصور المخرج العنف اليومي الذي تعيشه غزة عبر مشهدية سوريالية إلى حد ما كمشهد البطيخ المتفسخ والمرمي على الأرض. «غزة 36 ملم» ليس فيلماً يخرج منه المشاهد برؤية واضحة. تبقى العديد من الصور المشوشة والفجائية في رأسه متسائلاً عن معناها ورمزيتها، إلا أنه يختبر تجربة بصرية فريدة قد يرفضها لغرابتها أو يتماهى معها. مع ذلك، أُخذ على هذا العمل ركوبه موجة التنميطات الغربية عن القطاع للوصول إلى المهرجانات العالمية.