في الصفحات الأخيرة من كتابه «كنتُ كثيراً، لم أكن أحداً» (الانتشار العربي)، يجد حمزة عبود (1946) لسيرته في «أحوال الطفولة والصبا» سياقاً صائباً وعلاقة صلبة مع كونه سيصبح شاعراً وكاتباً في ما بعد. يستعيد الشاعر اللبناني أجزاءً من سيرة الطفل الذي كانه في قريته الجنوبية «عدلون»، وانتقاله إلى المدرسة الابتدائية في صيدا. تتأرجح سرديات الكتاب بين هذين المكانين. الأول بتفاصيله الريفية وقربه من البحر ومجتمعه العائلي الصغير، والثاني بازدحامه المديني وفرص الانفلات من الرقابة الصارمة للأهل والانغماس في تفاصيل حياتية جديدة.
السرد منجز بالوعي المبكر لصبي يحاول إرضاء رغبة والده بالتفوق في المدرسة، ويستجيب لمزاجه في تأمل الأشياء والعالم. في القرية، تعلم الكثير من علاقته بالبحر، ومن علاقته بجدّه الذي كان يشجعه على التحرر والتلذذ بتفاصيل العيش، بينما كانت علاقته بأقرانه تكمل جانب اللهو والسباحة وخوض المغامرات الصغيرة. في المدينة، ستكون البداية من تغيير طريق الذهاب إلى المدرسة والإياب منها، من أجل اكتشاف حاراتٍ ومحالّ أخرى. المدينة القديمة التي يصف عمارتها وزواريبها تتوسع بالأحياء والشوارع الأحدث، وانتقال الناس إلى أنماط أخرى للسكن والعيش. هناك توثيق لذاكرة المؤلف التي تمتزج مع ذاكرة المكان وجمالياته الباشلارية أحياناً. توثيقٌ لأسماء الأحياء والشوارع والمقاهي ودور السينما والمطاعم والمهن. وتوثيق يبدو أحياناً أنه لا يعني القارئ غير اللبناني وغير الصيداوي أحياناً، ولكنه حاضرٌ في عودة صاحب «كأنني الآن» (1996) إلى ذلك الزمن، حيث بدت له «المدينة رغم اتساع ميادين الحياة فيها وتنوع سكانها واختلاف طرق العيش، أنّها متصلة على نحو أكثر إحكاماً من قريتي التي كنت أظن أنها بيتٌ واحد تتسع أرجاؤه في كل ناحية إلى الحواكير أو حتى إلى الحقول المجاورة». في الغرف التي يستأجرها مع شقيقه الأكبر وآخرين من فتيان القرية، يختار دوماً أن يكون سريره قرب نافذة تطل على مشهد ما. في الباصات التي تنقلهم في العُطَل إلى القرية، يحرص على اختيار مقعد يطل على مناظر الطريق: «كنت أختار الأماكن التي تمنحني فرصة للوحدة أو السفر إلى بلاد وراء المشاهد التي تطل عليها الشرفات والنوافذ، وتتسع إلى أمداء بعيدة». المدى المفتوح كان يسهّل على الفتى أن يتأمل. سيكون ذلك إشارة إلى لا مبالاته بالتفوق في الدراسة، بل إنه سيُعيد صفه في نهاية العام، وسينقله والده إلى مدرسة أخرى تضطره لتعلم الانكليزية، والحصول بصعوبة على شهادة «السرتفيكا».
حصة المدينة تصبح أكبر وأعقد على حساب حصة القرية «التي لم أعدْ أقصدها كلّ أيام الجمع والآحاد كما كنت أفعل في الأسابيع الأولى». صار لديه في المدينة ما يشجعه على البقاء فيها، من دون أن يحدّ ذلك من شغفه بأمكنته الأولى وعلاقته بأصدقائه وخصوصاً «قاسم دبوس» الذي سيتعلم منه الكثير، وسيموت لاحقاً بصعقة كهربائية. في المرحلة المتوسطة، ستزداد التفاصيل التي يمكن أن تلهيه عن المنهاج. تكثر روحاته إلى السينما، ويصبح له نجومه المفضلون في الأفلام العربية والأجنبية. وسيتذكر القارئ أن الكتاب نفسه مُهدى «إلى زمن عبد الحليم حافظ، وإلى كل من أصابتهم عدوى «آمال وأحزان» ذلك الزمن». السينما والكتب ستتكفلان في صياغة مزاج الفتى الذي بات يستمع إلى أحاديث السياسة التي تدور بين من هم أكبر منه قليلاً، ويسمع أخباراً عن: عبد الناصر، ثورة الجزائر، الاستعمار الفرنسي، تأميم قناة السويس. بين كتب زملاء السكن، سيعثر على كتاب «الأرواح المتمردة» لجبران خليل جبران، وسيحفظ عبارات من قصة «خليل الكافر». في الأثناء، تظل المدينة حاضرة بتوسعها العمراني والاجتماعي، وتصبح العلاقة مع القرية مقتصرة على تفاصيل مستعادة، وعلى العطَل المتباعدة، والتردد على أمكنة الطفولة ومذاقاتها. ستبدو له الحياة في السينما أسهل من الحياة في الواقع، وسيقرأ كتباً لتوفيق الحكيم ومكسيم غوركي ومارون عبود وطه حسين، وأشعاراً لخليل مطران وصلاح لبكي ونزار قباني. سيعترف ببراعته في «سرقة» بعض الكتب، وسيشغله الشغف بالكتب عن «كتبي المدرسية التي كانت منصوبة كفخاخ على الطاولة الصغيرة أمام سريري، وحملاً ثقيلاً في محفظتي المدرسية». تمهيداتٌ ستقوده إلى شراء دفتر يكتب فيه «نصوصاً تقلد لغة جبران»، ويملأ صفحاته بـ «خواطر وقصائد وحكايات». نصوص وخواطر ستأخذه لاحقاً إلى الشعر، وإلى نشر باكورته «أبدأ من رقمٍ يمشي» (1978)، لكن هذا لا يرد في الكتاب الذي يتوقف قبل ذلك، مكتفياً بالوعي المبكر لفتى «كان كثيراً، ولم يكن أحداً».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza





قبل تلاشي الذاكرة

عودة الشاعر إلى الطفولة تثير انطباعات عديدة، ربما لا تكون مترجمة على نحو مباشر في الكتاب الذي تحضر فيه تفاصيل مختلفة عن القرية والمدينة وتحولات الزمن، وتطور وعي صاحب «الكلام أيضاً» (1982). والكتاب ليس الأول لجهة كونه سرداً، فقد سبق لحمزة عبود أن أصدر رواية بعنوان «حكايات الشاعر بلوزار» (1988)، ومجموعة قصصية بعنوان «هدوء حذر» (1998). أما الطريف في الأمر، فهو أن الشاعر يسكن حالياً في «حيّ القملة»، وهو الحي نفسه الذي شهد وصوله الأول إلى مدينة صيدا. لعل هذه المصادفة سبب عاطفي ومزاجي غير معلن لكتابة صفحات من الماضي قبل أن تبهت أكثر في الذاكرة.