يستحق فيلم «حياة أديل» للتونسي الفرنسي عبد اللطيف قشيش (1960) سعفة «مهرجان كان السينمائي» الأخير. يحكي الفيلم المقتبس عن رواية للكاتبة الفرنسية جولي مارو «الأزرق أدفأ الألوان» قصة حب بين فتاتين، الطالبة الثانوية أديل (أديل اكساركوبولوس)، والطالبة الجامعية إيما (ليا سيدو). أحدثت المشاهد الجنسية في الفيلم الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض، فيما لا يزال فوز الفيلم بكبرى جوائز «مهرجان كان السينمائي» لهذا العام موضع إستهجان كثيرين.
لكن «حياة أديل» يبقى من أجمل وأدفأ قصص الحب التي عرضت على الشاشة بسبب جمال القصة والحساسية التي صورت بها علاقة الفتاتين وأدائهما الرائع والحقيقي. ليس فقط بسبب العري الجسدي، بل لأنّ الممثلتين تعريان روحيهما وقلبيهما في كل مشهد. هكذا، أتت المشاهد الجنسية بشدتها نتيجة طبيعية وصادقة للحب القوي والجارف الذي يجمع الفتاتين. ولعلّ كون الفيلم يحكي قصة حب أول، فإنّ المشاهد يدرك أنّ حكاية الحب تلك محتومة بالفراق وإنكسار القلب. هل هناك حب حقيقي وصادق بعد الحب الأول؟ هل هناك ألم وموت أشد وطأة من النهاية الأولى؟ ألهذا قال أبو تمام «ما الحب الا للحبيب الأول»، أم لهذا شبهت الشاعرة الأميركية اميلي ديكينسون نهاية الحب بالموت؟ نهاية الحب الأول هو الموت الأول وإن لم يكن، فهو بداية شيخوخة القلب.
أديل، الفتاة المراهقة، ما زالت أقرب إلى الطفولة منها إلى البلوغ. هي طفلة بريئة وان كانت آلام النضوج قد بدأت تدب بها، بما تحمله من ارتباك وخوف وإنعدام في الرشاقة حركة وسلوكاً. وأديل ما زالت كصغار الحيوانات عفوية وشراهة للحياة وللإكتشاف. نهمة وتأكل بلا توقف. تأكل صحنها وتلعق السكين وتطلب صحناً ثانياً من معكرونة والدها اللذيذة. المعكرونة التي تأكلها العائلة بانتظام تضعنا في جو الحالة المادية المتواضعة لأسرة أديل، مقارنة بالمحار الذي تأكله أسرة إيما الأكثر رقياً مادياً وثقافياً، وإن كان ذلك لا يعني أنّها أكثر غنى عاطفياً وروحياً من أديل وعائلتها البسيطة. الا أنّ ذلك الشرخ المادي والثقافي سيؤسس لبداية نهاية العلاقة بين الفتاتين. ستشعر أديل بالضياع وستفقد ثقتها بنفسها كسمكة تسبح في غير بحرها، وخصوصاً حين تلتقي بأصدقاء إيما المثقفين والمبدعين. ستشعر بالارتباك والوحدة والدونية في تلك الحفلة التي تنظمها إيما لاصدقائها ليتعرفوا الى حبيبتها الجديدة. لا تملك أديل ما تبهرهم به سوى طهيها الرائع للمعكرونة. هل يقتل المال الحب؟ هل من مكان لحب يعيش وينمو ويكبر بين شخصين من خلفيات إقتصادية مختلفة؟ طموح إيما أن تكون فنانة كبيرة معروفة، بينما طموح أديل أن تكون معلّمة أطفال في مرحلتي الحضانة والإبتدائية. تحاول إيما أن تنمّي الوعي الفني والإبداعي لأديل التي تعتبرها إيما كاتبة ممتازة. الا أنّه ليس لدى أديل اي طموحات أدبية برغم كونها قارئة نهمة وكاتبة ممتازة. وفي حين ترى إيما أن تحقيق الذات والابداع هما من عوامل السعادة، فان أديل تقول إن كل ما تحتاجه لأن تكون سعيدة هو أن تبقى بقرب إيما.
حين تدرك أديل هويتها الجنسية، لن تجرؤ، بحكم بيئتها، على إعلانها. خصوصاً أمام والديها التقليديين، ليس فقط بسبب نظرتهما إلى الجنس، بل أيضاً إلى ماهية طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية: المرأة بحاجة لرجل منتج يصرف عليها وعلى الاسرة فيما المرأة هي زوجة وأم لا أكثر. وهذا كله سيكون عائقاً في درب إستمرار العلاقة بين الحبيبتين في حين أنّ أهل إيما يعرفون ويرضون بكونها مثلية. إيما تقدم أديل لأسرتها على انها حبيبتها الجديدة فيما اديل تعرّف ايما لوالديها على انها صديقة تساعدها في مادة الفلسفة الصعبة. يطرح عبد اللطيف قشيش أسئلة جميلة، من دون أن يطرحها فعلاً. هل من أمل في علاقة ناجحة على المدى الطويل بين افراد من بيئات فكرية واهتمامات مختلفة ودرجة متفاوتة من الطموح الشخصي؟
هذه هي الاسئلة التي تعطي الفيلم عمقه وأبعاده الفكرية، لتجعله قصة حب جميلة بشكل عام، قبل أن تكون قصة حب بين فتاتين. لكن فيلم قشيش ليس إلا محاولة من مخرجه لكتابة رواية بصرية من وجهة نظر أديل بالذات. نرى في الشريط الكثير من الإشارات لأعمال أدبية يمررها المخرج من خلال صفوف الأدب الفرنسي التي تتلقاها أديل في مدرستها. بل ان فيلم «حياة اديل» في بعض جوانبه يشبه رواية بيار دو ماريفو «حياة ماريان» التي تحكي عن الحب من أول نظرة، وتعطي أولوية للتعبير بالتفصيل عن مشاعر المرأة وقوة حدسها.
حين ترى أديل إيما في الشارع، تقع في حبها من النظرة الأولى، وتراها في حلم جنسي في الليلة نفسها. هناك أيضاً مسرحية الإغريقي سوفوكليس العظيمة «أنتيغون» (441 قبل الميلاد) التي تعد بطلتها أول شخصية نسوية قوية في الأدب وتحكي عن قوة القدر. معلمة الأدب في صف أديل تخبرهم أنّ مأساة أنتيغون تكمن في أن مصيرها كان محتوماً منذ البداية، وهي بالرغم من ذلك تسير في دربها نحو ذلك القدر والمصير بلا تردد. تقول المعلمة إن تعريف المأساة هي ما لا يمكننا تجنبه. وكأنها بذلك تخبرنا مصير قصة الحب بين أديل وإيما. ومع رائعة فلوبير «مدام بوفاري»، يتشارك الفيلم في إسم احدى بطلتيه، في إيروتيكيته المثيرة للجدل في عصرها ولواقعيتها الشديدة في الوصف والتصوير. فيلم عبد اللطيف قشيش واقعي لدرجة جارحة وفي تلك الواقعية تكمن قوة الفيلم. هو لم يسمح بوجود كوافيرات للممثلتين، ولم يسمح لهما باستعمال المكياج. فقد كان المخرج يصبغ شعر إيما الازرق بنفسه يومياً، كما أن الكثير من لقطات أديل في الفيلم أُخذت خارج إطار تصوير الفيلم. بعضها إلتقط لها وهي نائمة فعلاً، أو خلال الأكل، أو في طريقها من بيتها إلى مكان التصوير، لذلك جاءت اللقطات طبيعية. كذلك، سمح قشيش لممثلتيه بقراءة السيناريو مرة واحدة فقط، قبل أن يطلب منهما نسيان النص لترتجلا أفعالهما وأقوالهما.
كل هذا يمكن رؤيته في الفيلم كما في أداء الفتاتين الصادق. هكذا، نشعر أننا أمام عاشقين يعيشان قصة حبهما بكل ما فيها من اشواق وصفاء وتوتر وألم. يروي المخرج قصته بالتفصيل، لكن الساعات الثلاث تمرّ كأنها لحظات قصيرة. المشاهد والإنفعالات، وكل اختلاج لشخصياته يلتقطها المخرج عن قرب شديد عبر لقطات "كلوز آب"، تكاد أن ترهق عيني المشاهد. إلا أنّ المخرج أرادنا أن نرى كل شيء عبر عيني أديل. في أحد المشاهد، تقول أديل لزميلها في المدرسة، وحبيبها لاحقاً إنّ رواية ماريفو «حياة ماريان» طويلة جداً وتصل إلى 600 صفحة لأن الكاتب أراد أن يدخل في جلد شخصية ماريان، وأن يظهر أدق التفاصيل في حياتها ومشاعرها وافكارها. هذا ما حاول عبد اللطيف قشيش أن يفعله. يحتاج السينمائي إلى جهد كبير لكي يلتقط ما لا تلتقطه العدسة وما يمكن أن تلتقطه الكلمة بكلمة أو كلمات. وهذا تحديداً ما جعل من «الأزرق أدفأ الألوان» شريطاً خاصاً. ومن هذا المنظور، فإن قشيش كان محظوظاً بأن نجح في إيجاد من يموّل رؤياه السينمائية المعقدة والدقيقة تلك.
إنه قصة أول وأصعب حب. قصة إكتشاف الذات أولاً واخيراً، وقصة الخروج من مرحلة الطفولة الى سن النضج. نضج التجربة والمعرفة والنضج الذي يحمله الحزن والالم والحبّ والفراق. ليس النضج الذي تحمله زيادة عدد سنينا على هذه الأرض، بل نضج ذلك الجرح في أعماق القلب، الجرح الذي لا شفاء منه، وكل ما بعده ليس إلا محاولة لعيش تلك اللحظة الاولى. حب مضى لكنه لا ينتهِ.
تقول ايميلي ديكينسون:
مت قبل موتي مرتين
وسأرى ان ما كان الدهر
يخبئ لي
حباً ثالثاً
عظيماً وان لا أمل فيه
كما في تينك المرتين.
الفراق هو كل ما نعرفه من النعيم،
الفراق هو كل ما نحتاج أن نخبره من الجحيم.

«الازرق هو أدفأ الالوان» قصيدة في فيلم يحكي قصة نعيم الحب وجحيم الفراق في أوديسة شبق اكتشاف معنى الذات وطعم الوجود من رحم الحياة، والسير نحو ما تبقى من عمر برأس مرفوع وهامة منتصبة ولو على ركام من دم ودموع وذكريات.