في موسوعته «أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين»، يقول خليل أحمد خليل في بطاقة تعريفية موجزة عن جورج طرابيشي (مواليد حلب 1939 – 2016) إنه «خلّف وراءه إرثاً نوعياً كبيراً، لم يتميز به سواه من المكثرين. فهو خزان طاقة، يجعل قلبه في خدمة عقله، وهذا في خدمة حضورنا الجديد في عالمٍ معياره الصراع والتغالب. ربما نظلمه إذا صنفناه تصنيفاً ثلاثياً: مُعرِّب، ناقد أدبي ومفكر (متفلسف). فهو هؤلاء جميعاً وأكثر بقليل، حيث هذا القليل ينطوي على شخصية جورج طرابيشي الصلبة، الصبورة صبر العقل، لا صبر المنهزمين».
أمضى ابن مدينة حلب وأحد أعمدة العقلانيين العرب عمره باحثاً في اتجاهات عدة بين الترجمة والتأليف والنقد الأدبي للرواية العربية. وضع عدداً كبيراً من المؤلفات، منها «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، و«هرطقات» بجزءيه الاثنين...
رسم طرابيشي مسيرته الفكرية في مرحلتين: تبنى الأيديولوجيات الغربية الحديثة من ماركسية إلى قومية، مع قطيعة تامة مع التراث، وبعدها دفعه مساره العقلاني باتجاه اكتشاف التراث. سار في اتجاهات تصاعدية، بدءاً من الفكر القومي والثوري، مروراً بالوجودية والماركسية والتحليل النفسي، وصولاً إلى الإبستمولوجيا المطبقة على التراث العربي الإسلامي. تشكل النزعة النقدية الجذرية عنده منهجاً عقلانياً صارماً رأى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: «الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر». وفي رحلته مع الترجمة، بدأ من الفلسفة إلى علم النفس. نقل إلى العربية كتباً عدة؛ منها موسوعة «تاريخ الفلسفة» في سبعة أجزاء، «المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال» (هيغل)... إلى جانب تعريبه غالبية مؤلفات فرويد.
ينهض مشروعه الفكري الضخم على ثلاثة أركان رئيسية: ترجمة أهم الأعمال الغربية في الفلسفة وعلم النفس، ونقد الفكر العربي ــ الإسلامي الحديث والمعاصر، ودراسة مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» حيث أصدر سلسلته المضادة «نقد نقد العقل العربي» في أجزائها الأربعة.
لم يقف طرابيشي فقط عند كتب الجابري ــ المشروع الذي استغرق منه حوالى ربع قرن ــ بل تجاوزها بالعودة إلى التراث الواسع، لأن الإشكاليات التي صاغها الجابري كانت تتعلق بمستويات ثلاثة أساسية: الفكر الفلسفي اليوناني، الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي الحديث كما يوضح طرابيشي.
منهجياً، يعتمد طرابيشي ـــ كما يلفت الباحث المصري سمير أبو زيد في مقالة طويلة عنه ــ «على نوعين أو مستويين للمناهج: الأول، خاص بمعالجة المشكلات المعاصرة لقضايا النهضة والحداثة، والثاني خاص بقضايا التراث ومشروع «نقد نقد العقل العربي». بالنسبة إلى القضايا المعاصرة، يستخدم منهج التحليل النفسي من أجل نقد الواقع الفكري والثقافي العربي (...) إضافة إلى ذلك يعتمد على إعادة تأويل النصوص من خلال فهمها في إطارها التاريخي وسياقها الاجتماعي (...). أما بالنسبة إلى التعامل مع التراث من خلال مشروع «نقد نقد العقل العربي»، فيستخدم المنهج التفكيكي من أجل إعادة النظر في الأسس المعرفية «الإبستيمولوجية» للنص الجابري، ثم منهجي الحفر الأركيولوجي، والنقد التاريخي من أجل الوصول إلى الأصول التراثية للمفاهيم والمقولات الواردة في هذا النص، ثم أخيراً منهج التركيب من أجل إعادة بناء هذه المفاهيم والمقولات في صورتها الصحيحة بناءً على نتائج النقد».
أثار «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» سجالاً في الأوساط الثقافية العربية. وقد وظف طرابيشي المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بما تنطوي عليه من معنى القطيعة والاستمرارية في آن معاً، مسلطاً الضوء على عملية إعادة تأسيس الإسلام القرآني في إسلام حديثي، وذلك طرداً مع التحول الموازي من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام «أم القرى» إلى إسلام الفتوحات. رصد في الكتاب الآليات الداخلية لإقالة العقل في الإسلام، مختتماً مشروعه «نقد نقدِ العقل العربي».
دافع طرابيشي عن العلمانية ورأى أنها القاطرة للخروج من حالة التردي والصراع الطائفي والمذهبي. في إحدى المقابلات التي أجريت معه يقول: «من الأسلحة الفتاكة التي حوربت بها العَلمانية (بفتح العين نسبة إلى العالم) في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي معاً القول إن العلمانية اختراع مسيحي، أو استقراء لأوروبا المسيحية التي أوجدت العلمانية حلاً للصراع الكبير الذي امتد أكثر من مئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت، وجاء عمل الاستشراق ليؤكد أن العلمانية هي بالفعل من وجهة نظر استشراقية ابتكار مسيحي لا يمكن أن يطبق على التاريخ الإسلامي؛ لأن العلمانية موجودة في النص التأسيسي للمسيحيين الذي هو الإنجيل، ولا وجود لها في النصين التأسيسيين للإسلام اللذين هما القرآن والسنة معاً. ولكن عَلامَ يستند هؤلاء المستشرقون في دعواهم؟ إنهم يستشهدون بآية واحدة وجدت في الإنجيل، وهي قول المسيح (...) «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، واعتبروا أن هذه الجملة الوحيدة في الإنجيل ميزت بين حكم الدنيا وحكم الآخرة، وبين الدولة والدين، وبالتالي أمكن لأوروبا المسيحية أن تنجز العلمانية. ما وجدته في تاريخ الإسلام يعادل، بل يزيد بكثير عن هذه الجملة الإنجيلية المميزة بين الله وقيصر، ففي حديث الرسول؛ والمعروف بحديث تأبير النخل، كان الرسول ماراً بحي من أحياء المدينة، فسمع أزيزاً فاستغربه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: «النخل يؤبرونه» أي يلقحونه، فقال وهو الذي لم تكن له خبرة في الزراعة: «لو لم يفعلوا لصلح»، فأمسكوا عن التلقيح، فجاء النخل شيصاً، أي لم يثمر، فلما ارتدّوا إليه يسألونه، قال قولته المشهورة: «أنتم أعلم بأمور دنياكم (...) هناك حوالى 15 رواية تؤكد على هذا المنحى التمييزي بين الدنيا والآخرة، بين شؤون الدنيا التي يعلمها الناس، وشؤون الآخرة التي هي علم إلهي عند الله، وما أتى به الرسول فهو تركيز على الجانب الأخروي، وهذا في نص الحديث».
«العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقدياً» هذا ما أوصانا به جورج طرابيشي. لقد خسرت النخب الثقافية العربية برحيله علماً من أعلامها المبدعين العقلانيين.