العقلانيون العرب يلبسون الحداد اليوم، ومعهم الثقافة العربيّة المعاصرة، على أحد كتّابهم المرجعيين، المترجم والمفكّر والناقد والباحث السوري جورج طرابيشي الذي ولد في حلب عام ١٩٣٩، وانطفأ في باريس مساء الأربعاء ١٦ آذار/ مارس ٢٠١٦. جاء الخبر عبر صفحته الرسميّة على فايسبوك: لقد رحل صاحب «نقد نقد العقل العربي» في منفاه الباريسي عن ٧٧ عاماً. بل لنقل إن باريس شكّلت ملجأه الروحي والعقلي، تلك الشرفة التي أطلّ منها على العالم العربي، واستغرق في كتاباته وترجماته وأبحاثه التراثية والفلسفية، واضعاً لبنات مشروعه الفكري الذي ينضوي تحت خانة العقلانية. رحل جورج بعيداً عن بلاده الممزّقة التي نظر بمسافة نقديّة صارمة إلى «ربيعها» المزغول، كما يوضح في نص بيوغرافي على موقع «أثير»، هو من آخر ما نشره. بعيداً عن دمشق التي حملها في قلبه على دروب المنفى، وفيها تكوّنت أحلامه السياسيّة ومشاريعه الفكريّة الأولى، في الستينيات، من جامعتها إلى إذاعتها التي عمل مديراً لها، ومن حزب البعث إلى المعارضة فالسجن، فالإبحار في متاهات القوميّة والماركسيّة والوجوديّة، وإشكاليّات النهضة والحداثة. مات بعيداً عن بيروت مدينته الثانية، وفيها عمل رئيساً لتحرير «مجلّة الدراسات العربيّة»، وترجم هيغل وماركس وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وروجيه غارودي… وسيغموند فرويد. خصوصاً فرويد. في بيروت، دخل المرحلة الفرويدية، مترجماً ٣٠ مؤلفاً (عن الفرنسيّة) لمؤسس علم النفس التحليلي، قبل أن يطبّق المنهج الفرويدي على النقد الأدبي: نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ونوال السعداوي (أنثى ضد الأنوثة)، «الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية»، «عقدة أوديب في الرواية العربيّة»، «شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية». محطته النهائيّة الطويلة كانت باريس، ذهب إليها هرباً من الحرب الأهليّة، واستقر بها زهاء أربعة عقود. وهنا أخذه الفيلسوف محمد عابد الجابري إلى إعادة اكتشاف الفلسفة الإسلاميّة، وصالحه مع التراث. كرّس طرابيشي قرابة ربع قرن، ومشروعاً موسوعياً من سبعة أجزاء، لنقد مؤلف الجابري المرجعي «نقد الفكر العربي». الفلسفة والتراث صارا موطن طرابيشي البديل، فاشتغل على نظريّة «الإسلام الحضاري»، وتعامل مع الإسلام بصفته تراث الذات العربيّة، وبنى مفهومه عن «علمانية الإسلام»، تحديداً في كتابه «هرطقات 2: العلمانية كإشكالية إسلامية ــ إسلامية» (دار الساقي، 2008). واعتبر أن بلوغ «النهضة العربية مرهون بتحرير العقل، عموماً، وبتحقيق ثورة لاهوتية، خصوصاً، من خلال عملية نقد جذرية للتراث». في انتظار عودة مفصّلة إلى مشروع طرابيشي وسيرته ونتاجه، نستعيد هنا ما كتبه عن الظلاميّة منذ عام 1991، في كتابه «المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي»: «الظلامية هي مثل الثورات، بل أكثر من الثورات، في قسوتها على أبنائها. فإن كانت الثورة تنتهي بأكلهم، فإن الظلامية تبدأ به. فهي لا تطيق وجود متنورين حتى في صفوف دعاتها».(الأخبار)