القدس المحتلة | لم يكن زياد دويري نجم التطبيع في «مهرجان القدس الدولي للسينما» في تموز (يوليو) الماضي. بدا مثل لَقلَقٍ ضائع في حضور تمساح تطبيعي من الوزن الثقيل لم يكن سوى المخرج الإيراني محسن مخملباف. الأخير كسح دويري، وقدّم للاسرائيليين عرضاً لم يحلموا به، سلّاهم وأنعش عندهم ما يكدّسونه من صور نمطية عن «روحانية» الشرق وحتمية تقبّله للاستعمار، وأنه سيكتشف أفضال المستعمِرين في نهاية الأمر.
مخملباف الذي أدى باتقان دور شاهد زور، صدّق فعلاً أنه واحد من أولياء السلام، وأنّ المجد لا بدّ مقبل إليه. الذين شاهدوا مخملباف يهرّج ويبشّر بانكليزية ثقيلة وركيكة عن تصالح الأديان وسعادته باستقبال الاسرائيليين له، يصعب عليهم التصديق أنّ للرجل علاقة بالمعاصرة. بدا الأمر أشبه بمشاهدة سعيد عقل، في خرفه، يرحّب بالغزو الصهيوني عام 1982، أو بمشاهدة «أبو زيد السروجي» يقفز من مقامات الحريري ليؤدي واحداً من مونولوجات الكدية والتكسّب والدّجل. مشهد ساداتي. في الحقيقة، هو مشهد يبدو معه تهريج أنور السادات عند «زيارته» المشؤومة للقدس شيئاً رصيناً قياساً بتهريج مخملباف، الذي راح يصدّق بطولةً لفّقها خياله لـ«زيارة» لا تزيد على كونها انتحاراً أخلاقياً. حتّى زياد دويري بدا أقل بؤساً بجانب مخملباف. دويري الذي صور فيلمه «الصدمة» مع طاقم اسرائيلي، وجاء مرّات عديدة إلى فلسطين المحتلة (هو يسمّيها إسرائيل)، لم يأت هذه المرّة إلى عرض فيلمه «حتى لا يُعتقَل في لبنان» بحسب إدارة المهرجان، رغم أنّ «البطل» جاء مرات عديدة ولم يعتقله أحد. تحدّث دويري من باريس بالـ «سكايب» مع الجمهور الاسرائيلي ودفق مشاعر حبّه نحوهم عقب عرض الفيلم الذي بدا صعباً حتّى على الاسرائيليين أن يقتنعوا بحبكته وشخصياته السطحية. إلا أنه لم يعدم مَن وجدوه لطيفاً، ولا سيما أنّه «ممنوع في كل الدول العربية» كما تخبرنا جريدة «هآرتس». مسكنة دويري بدت لا شيء أمام مسكنة مخملباف، الذي تحاربه الحكومة الإيرانية شخصياً وتحاول قتله من حين إلى آخر كما يزعم. حتّى قمع النظام الثيوقراطي الإيراني للحريات الفنية حوّله مخملباف إلى قصة ضده شخصياً، كأن أحمدي نجاد كان لا ينام الليل وهو يتآمر عليه. وإن كان حقده على النظام في إيران يمكن أن يُفهم، فما لا يمكن أن يُفهم هو عدم دفاعه عن بلده أمام تآمر اسرائيل وتحريضها المستمر ضد إيران. في المقابل، نراه يترجّى إسرائيل أن لا تهاجِم منشآت إيران النووية، إذ «لا جدوى من ذلك» برأيه، وعوض ذلك يقدّم النصح «من الأفضل مساعدة القوى الديمقراطية في إيران». القادم إلى «إسرائيل» ليصور فيلماً ينتصر لحقوق البهائيين (البستاني، 2012) انطلاقاً من «الحدائق البهائية» في حيفا المحتلة، لم يتساءل عن الحدائق الفلسطينية التي سرقت ودُمّرت، ولا عن أصحابها الذين غدوا لاجئين في كل بقاع الأرض. هوسه بـ «حقوق الإنسان» أعماه تماماً، ليس عن حقوق أو عذابات الشعب الفلسطيني، فهو ببساطة لم يره ولم يهتم سوى بالمستعمرين «البيض»، الذين تأتأ في حضرتهم «تأتأة الزنجي الصغير»، فمنحوه جائزة في التسامح وتصفيقاً طويلاً.
وإن كان المتصهينون من الغربيين يأتون عَرَضاً على ذكر الفلسطينيين من باب ادعاء الموضوعية؛ فإن المتصهين الشرقي المخلص لم يذكر فلسطين بكلمة. هو فقط مهووس بترديد خطاب يحبّه الصهاينة وتتحوّل بموجبه المسألة الاستعمارية إلى صراع أديان وعُقد ثقافية، ووصفة حل هذا «الصراع» موجودة قطعاً في أفلامه وكراماته وتهريجه. لا يخلو مخملباف من ملامح العُصاب، وهو يذكّر بالكاتب الموتور بوعلام صنصال، الذي وصل حقده على سلطات بلاده الجزائر حد الحقد على بلاده نفسها وعلى كل ما يمت للعرب والمسلمين بصلة ومعانقة العدو والبحث عن دور في خدمته (مسلسل الاحتيال الذي بدأه مع «جائزة السلام» الألمانية لم يُنهِ حلقاته بعد). مونولوجات عصاب صنصال إبان مشاركته في مهرجان اسرائيلي للأدب في ذكرى احتلال القدس العام الماضي (الأخبار 12/6/2012)، شبيهة بعصاب مخملباف. ويبدو أن حقد الاثنين على الأنظمة في بلديهما قد تركهما بلا أخلاق وفي غرام من طرف واحد مع المستعمِرين. هذا إذا افترضنا وجود منظومة أخلاقية منذ البداية.
أما تباكي مخملباف على البهائيين (أو متاجرته بموضوعهم)، فيبدو مجرّد ذريعة استعملها سلّماً لإسرائيل، فضلاً عن أنّ جزءاً من التمييز الذي يتعرض له البهائيون لدى السلطات في إيران، وبعض السلطات العربية (ونحن لا نبرره قطعاً)، وبعيداً عن الجانب العقائدي، سببه علاقة «البهائية» (العلاقة المختلف على حقيقتها وحجمها) مع الحركة الصهيونية.
الدفاع الحقيقي عن البهائيين يكون بإعلاء الصوت الذي يطالب قيادتهم الحالية بقطع ارتباطاتها مع الصهيونية، ليكون الرجوع إلى علاقة طبيعية مع بيئتها وتاريخها وشعوب منطقتها ممكناً، تلك العلاقة التي أوغلت الصهيونية في إفسادها. وقتها، لن نحتاج إلى تماسيح تسامح من الوزن الثقيل أو أخرى مبتدئة.
في 1990، قدّم عباس كياروستامي فيلماً («نماي نزديك» أو «كلوز-أب») عن قصة حقيقية لعامل مطبعة ايراني انتحل شخصية محسن مخملباف، وأقام علاقة مع عائلة ميسورة نسبياً صدّقت أنه المخرج المعروف، بل أقنع العائلة بأنّه سيختار منزلها مكاناً لتصوير فيلمه الجديد. يسرد الفيلم حيثيات اعتقاله ومحاكمته بتهمة الاحتيال بعد بضع زيارات لبيت تلك الأسرة. لا نستطيع أن نجزم ـ أثناء المحاكمة ـ إن كان الرجل يمثّل دوراً جديداً لرجل حسّاس لينجو، أم أنه بالفعل متأثر بأفلام مخملباف وممسوس بالفن. بساطته أو بالأحرى سذاجته، تجعل المشاهد يتعاطف معه، فضلاً عن أن كذبته لم تكن مؤذية، بل موحية جداً من الناحية الفنية، وهذا ما جعلها تنتهي فيلماً بتوقيع كياروستامي الذي جعل أطراف القصّة يؤدون أدوارهم الحقيقية كممثلين في الفيلم. في المشهد الأخير من فيلم كياروستامي، نتعاطف تماماً مع «المنتحِل» البسيط، وهو ينهار باكياً أمام بيت العائلة التي خدعها طالباً الغفران، برفقة محسن مخملباف الحقيقي، وهو يؤدي دور مخرج شهم جاء يساعد الرجل على نيل غفران العائلة. هل في الحياة متّسع من الفانتازيا لأن نرى المخرج الإيراني يقول ذات يوم وهو غارقٌ في الخجل: سامحوني، كنتُ أُمثّل دور تمساح؟