بعد وثائق «ويكيليكس»، جاء إدوارد سنودن وفضائح التجسس الأميركي على العالم. ارتبك الإعلام الغربي الذي كان يغطّ في غيبوبة طويلة ويتخبّط في التفتيش عن مصادر تمويل طارئة. كيف نتعامل كإعلام كلاسيكي مع ظاهرة التسريب وإعلام النشطاء؟ سألت بعض المؤسسات نفسها، فأجاب الصحافيون ــ الناشطون: الإعلام السائد وأسلوبه المهادن لم يعد يصلح في زمننا. إنّه جدل تاريخي ضروري ذلك الذي شهدته الصحافة الغربية في الأيّام الأخيرة حول قواعد المهنة وأعرافها وقيمها في زمن ولادة جيل جديد من الصحافيين/ الناشطين. جدل يليق بعهد جديد دشّنته «ويكيليكس» واستكمله إدوارد سنودن ومَنْ تعامل مع تسريباتهما في الإعلام العالمي. التجربتان الأخيرتان، أظهرتا أنّ الكلّ يريد نشر «سكوب» الوثائق المسرّبة لكن ليس الجميع مستعداً لإشهار موقف من مضمون ما جاء فيها ثم اعتماد المساءلة والتقصي الصريح تجاهها في العمل الصحافي اليومي.
هو جدل بين مدرستين: الأولى شعارها «الموضوعية»، لا تثق إلا بصحافيين مجرّدين من آرائهم أثناء العمل، والثانية شعارها «الإنسان غير موضوعي بطبيعته»، ترى أنّ من يشهر رأيه ومواقفه هو أصدق من الذي يُجبَر على إخفائها، طالما أنّه ينتج عملاً دقيقاً. مدرستان تجسّدتا في مراسلات حوارية ممتعة جرت بين مدير التحرير التنفيذي السابق في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بيل كيلير، والصحافي الناشط ناشر وثائق سنودن، والمستقيل حديثاً من صحيفة الـ«غارديان» البريطانية غلين غرينوالد.
كيلير الذي يمثل المدرسة الأولى، أطلق الحوار من سؤال عن مستقبل المهنة، فسأل «هل غلين غرينوالد هو مستقبل الأخبار؟». أعلن كيلير منذ البداية أنّه «على الصحافيين والمحرّرين أن يحتفظوا بآرائهم لأنفسهم إلا إذا قرروا أن يكتبوا في صفحات الرأي». وبرّر ذلك بأنّه «عندما يضع الصحافي رأيه جانباً كما يفعل القاضي، فإنّ ذلك سينتج مادة أكثر مصداقية». هو يرى في هذا المبدأ سلوكاً يجب أن تعتمده المؤسسة الإعلامية بكاملها وليس فقط الصحافيين كأفراد. ويبرّر كيلير ذلك بأنّه عندما يعلن الصحافي توجهه، يصبح أكثر عرضةً للدفاع عنه من خلال تغطية الموضوع بطريقة تخدم وجهة نظره. القرّاء أيضاً قد يشككون بالمقال إذا كان صاحبه ذا انتماء سياسي معلن، يضيف كيلير. مدير تحرير «نيويورك تايمز» بين ٢٠٠٣ و٢٠١١، يخلص إلى أنّه على الصحافي أن «يحصّن» قارئه بكل المعطيات الدقيقة، ويتركه ليكوّن رأياً من دون أن يتدخّل هو في ذلك.
لكنّ لغلين غرينوالد رأياً مخالفاً لكيلير، ما عدا أنّه على الصحافي أن يأتي بمعلومات دقيقة، «وهو المعيار الأهم لأي عمل صحافي». المدوّن الأميركي عدّد بعض الأخطاء المهنية الفادحة التي ارتكبتها «نيويورك تايمز»، خصوصاً في عهد كيلير. أخطاء تنسف كل شعارات الأخير وتحديداً في ما يتعلّق بـ«إدّعاء الموضوعية».
ينطلق غرينوالد من القول إنّ النموذج الـ«ستاندرد» للصحافي أي ذلك الذي يقضي بكبت وجهة نظره الشخصية، «لا ينتج عملاً صحافياً جيداً بل بعض العادات السيئة التي تضرّ بالمهنة». ويشرح غرينوالد أنّ الصحافي المرعوب من إبداء رأيه سيعمل وفق قاعدة: «هذا ما يقوله الطرفان وأنا لن أربط في الأمر». وهنا يكون الصحافي بـ«موضوعيته» طمأن السياسيين بأنّه سينشر أقوالهم من دون أي تعليق أو مساءلة. هكذا، حسب غرينوالد، باتت الصحافة تسير وفق معادلة: «فُلان قال كذا. بدل أن تكون فُلان قال كذا وما قاله كذب». ومن سجلّ الـ«تايمز» الحافل، استشهد غرينوالد برفض الصحيفة استخدام تعبير «تعذيب» لوصف وسائل التعذيب التي يستخدمها المحققون الأميركيون في استجواباتهم بناءً على طلب من المسؤولين. وبرأي غرينوالد، فذلك «يُفقد المهنة روحها وحياتها ويطفئ شغفها»، ويطرح سؤال: لماذا تستخدم الصحيفة ذاتها مصطلح «تعذيب» لتصف أساليب معتمدة في أنظمة عدوّة للولايات المتحدة؟ عن أي موضوعية وحيادية نتحدّث؟ ينبش الصحافي مثلاً آخر عن عدم حيادية «نيويورك تايمز». هذه المرّة يشير إلى تعمّد الصحيفة عدم ذكر أي شيء عن النووي الإسرائيلي في معرض الحديث عن النووي الإيراني وكل ما يواكبه الآن من تطورات.
«البشر ليسوا آلات مبرمجة على الموضوعية. كل واحد منّا يرى العالم وقضاياه من زاوية شخصية، الأمر الذي تفرضه الطبيعة البشرية»، يشرح غرينوالد مصيفاً أنّ «مَنْ يعبّر عن موقفه ويعمل بدقة هو أصدق ممن يكبت رأيه ويدّعي الموضوعية». وهنا يعيد غرينوالد تذكير كيلير بقلّة الدقة الفادحة التي اتسمت بها «نيويورك تايمز» قبيل غزو العراق عام ٢٠٠٣ حين «روّجت لسياسة الإدارة الأميركية، وهلّلت لحرب بنيت على أكاذيب وهي تعرف مسبقاً نتائجها الكارثية على المدنيين». في كل تلك الأمثلة وغيرها، كانت «نيويورك تايمز» صحيفة «ذات ميول سياسية معلنة لا تعتمد الموضوعية، كما يمكن التشكيك بمصداقيتها» يخلص غرينوالد.

يمكنكم متابعة صباح أيوب عبر تويتر | Sabahayoub@