لن يجد عشّاق التلصّص على حياة الكتّاب السرّية ما يروي ظمأهم في الرسائل المتبادلة بين الروائيَّين الجنوب أفريقي ج. م. كويتزي (1940) والأميركي بول أوستر (1947) التي ضمّها كتاب «الآن وهنا: رسائل 2008 ــ 2011» (دار فايكنغ ــ 2013). لا حديث عن طقوس كتابة، أو تفاصيل شخصية، أو أسرار إذا استثنينا صراع بول أوستر مع إعداد يخنة الملفوف الأحمر، والحضور الدائم لزوجته الروائية النرويجية الأميركية سيري هوستفت (1955).
يبدأ تاريخ الرسائل في حزيران (يونيو) 2008، برسالة من كويتزي يعرض فيها أفكاره عن مفهوم الصداقة، ليعلم القارئ بأن فكرة الكتاب ولدت مع اللقاء الأول للرجلين في شباط (فبراير) 2008، واقتراح من كويتزي «لإطلاق شرارات الإلهام». تستمر رحلة الرسائل المتبادلة بين بروكلين وأستراليا بتعاقب مضطرب قد يكون سريعاً خلال أيام، وقد يستمر لأشهر من الصمت. ليست مفاجأة ربما للمطّلعين على حياة الكاتبين الشهيرين، إذا علمنا بأن أغلب الرسائل كانت بالبريد العادي، وأحياناً بالفاكس، وأحياناً عبر الإيميل بين كويتزي وهوستفت لأن أوستر لا يستخدم الإيميل نهائياً.
تنوّع المواضيع المتبادلة لم يستطع تخفيف الرتابة التي تحتل الكتاب رغم محاولات أوستر كسر هذا الإيقاع حين يلقي نكتةً ما، تقابلها صرامةٌ أشبه بالقمع من كويتزي. بدءاً من الأزمة المالية العالمية عام 2008، مروراً بالرياضة، وصولاً إلى الفلسفة الشخصية عن مفاهيم كالصداقة أو الشعر الأميركي، يمضي الكتاب ببطءٍ شديد، عزاه معظم النقّاد إلى الحضور «ثقيل الظل» لكويتزي الذي يُعرَف بصرامته وتجهّمه الدائمين، إلى حد أن القارئ قد يخرج بخلاصة أنّ الكتاب أشبه بمونولوج طويل للنوبليّ صاحب «في انتظار البرابرة»، فيما اكتفى صاحب «ثلاثية نيويورك» (الأصغر سناً والأكثر مرحاً) بدور «السنّيد».
تؤكد الرسائل أنّ ما يجمعهما ـ على اختلاف أسلوبيهما في الكتابة ـ أكثر من مجرد نقاط تقاطع. هما يشتركان في خيبة أملهما من الشعر الأميركي بعد ستينيات القرن الماضي، وفي حبهما لكافكا وبيكيت، وعشقهما للرياضة، وإن اختلفا في التفضيلات بحكم اختلاف شخصيتيهما: يميل أوستر، المولع بالمصادفات والنهايات السعيدة إلى «فنون الأداء»، بينما يشدّد كويتزي، النباتي والنصير الشرس لحقوق الحيوان، على «أخلاقيات الرياضة» على حساب الجماليات. يرى كويتزي بأن «الرياضة تعلّمنا عبر الهزيمة أكثر من الانتصار؛ وذلك، ببساطة، لأنّ كثيراً منا لا ينتصر». وهنا يقفز إلى تحليل سياسي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي مستنداً إلى هذه الفلسفة ليشير إلى أنّه على الفلسطينيّين قبول الهزيمة «بشكلٍ بنّاء من خلال العودة إلى ألمانيا بعد عام 1945». أما البديل الآخر الذي يرفضه أي «الوسيلة غير البنّاءة»، فلا تعدو «متابعة إنعاش أحلام انتقاميّة بغدٍ يتم فيه تصحيح الأخطاء بمعجزةٍ ما».
بعيداً عن السياسة، وتحليلاتهما «الساذجة» للأزمة المالية وسبل الخروج منها التي تنتهي باستسلام ثنائيٍّ منهما لأنهما «ليسا متخصّصين في الاقتصاد»، ثمة حضور خافت للحياة الشخصية لأوستر، وولعه بالكريكيت، وإن اختلطت التفاصيل الشخصية بالثقافية بسبب الحضور الطاغي لزوجته الروائية في خلفية الرسائل، يقابله تكتّم معتاد من كويتزي الذي يتابع دفن حياته الخاصة خلف ستار حديدي من التجهّم. ولا عجب هنا إذا تذكرنا روايته «سيد بطرسبورغ» (1994) التي كتبها إثر وفاة ابنه الشاب، حين تماهى فيها مع شخصية دوستويفسكي (بطل تلك الرواية)، ليكون العملاق الروسي مجرّد وعاءٍ لأفكار كويتزي الخاصة، ومشاعره الشخصية التي لم يصرّح بها يوماً.
لا يخلو الكتاب من بعض «النميمة»، وخصوصاً حين يفتح الرجلان قلبيهما للتحدث عن النقاد وعلاقتهم بالإبداع. وهنا، يشترك الكاتبان، مجدداً، في كره النقاد والصمت بعد النقد السلبي (علناً على الأقل)، فيما يبوحان بما كتماه في هذه الرسائل. يطلق أوستر كل قدرات السخرية الأميركية لديه ليصبّها على الناقد جيمس وود بعد مقالة كتبها الأخير بعنوان «ضحالة بول أوستر». يلعب أوستر على معنى كنية «وود» (خشب)، ليقول بمرح: «ما الذي يمكن أن تتوقّعه ممّن اسمه يوحي بأن الأرضة ستلتهمه غداً؟». أما كويتزي، فلا يتورّع عن اعتبار الناقد مجرد «طفل يرشق الحصى على غوريلا في حديقة الحيوان، ويعلم بأنّ القضبان تحميه!».
لا جديد في الكتاب يمكن إضافته إلى الشخصيتين المكرّستين. يمكننا الاتفاق مع تيري إيغلتون في مراجعته (ملحق الـ «تايمز» الأدبي) التي كانت الأكثر شراسة في مهاجمة العمل، بأنّ «قراء كتب الرسائل بين الروائيين ينتظرون شيئاً أكبر مما عرفوه من الروايات»، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه الرسائل أسهمت في كشف تفاصيل صغيرة كنا نجهلها عن كويتزي، فيما سيعطينا أوستر (الأكثر اجتماعيةً وحضوراً تحت الأضواء) مزيداً من الأسرار في حوار أو كتاب قادم.