القاهرة | بعد أربعين عاماً على رحيل «عميد الأدب العربي»، لا تزال أفكاره وأطروحاته موضع نقاش واهتمام الكتّاب المصريين الشباب، ونقاط اتفاق واختلاف ينطلقون منها في تجذير معرفتهم وترسيخها. ترى الروائية أماني خليل أنّ «عدم اهتمام المؤسسات الثقافية بإحياء ذكرى رحيل طه حسين أمر منطقي مع غياب الدولة ممثلةً في وزارة الثقافة. هذه الأخيرة يفترض أن تكون قاطرة الحراك الثقافي في مصر وحاملة لمشروع قومي وطني للتنوير. لكن ما يمرّ به العالم العربي من حراك سياسي، خصوصاً مصر التي خاضت ثورة بانتفاضتين، وما يحمله هذا الحراك من أسئلة وإشكاليات تطرح على المواطن والجماعات والنخب السياسية يفرضان صراعاً حول ما يسمى الهوية الواحدة أو الهويات المتعددة. وهذا ما أشار إليه طه حسين منذ عقود».

وتواصل صاحبة رواية «الوهج»: «في ظل هذه الصراعات، تبدو وزارة الثقافة محوراً من محاور هذا الصراع، فكيف لها أن تقود قاطرة التنوير؟ منذ أشهر قليلة، كانت الوزارة تحت الحصار من قوى الظلام، وواجه المثقفون حروباً ضروساً مع الحكم البائد، وتعرّضوا للتهديد والإقصاء والعزل الوظيفي والتشويه والحملات الممنهجة حتى افترشوا الأرض دفاعاً عن الوزارة كرمز وعن الثقافة كمعنى وهوية. كان صراعاً بحجة التطهير وحقيقته التمكين والاستحواذ وفرض نمط ثقافي موحّد يرسمه الحزب الحاكم على حساب الرؤى المختلفة والانتماءات المكونة للشخصية المصرية».
وعن رؤيتها لمشروع طه حسين الثقافي، خصوصاً مؤلفه «مستقبل الثقافة في مصر»، قالت خليل: «لقد كان متقدّماً حين انتبه إلى صراع الهوية وحسمها لصالح شخصية مصرية ذات انتماء إلى المعسكر الغربي في التفكير، وأقر تشابهاً بيننا وبين ثقافات البحر المتوسط أكثر من كوننا شرقيين.
أقرّ بوحدة العقل الإنساني في المبدأ، وعزى الاختلاف بعد ذلك إلى الظروف المحيطة من الناحية السياسية والدينية وغيرهما... وأهمية ما تحمله رؤية صاحب «الأيام» برأيي تلك النزعة الوطنية والرغبة في صنع مشروع وطني قومي مصري مستقل غير متصارع مع الهوية العربية والإسلامية، لكنه ينحو إلى الأخذ بأسباب التقدم الأوروبية».
وتوضح خليل أن طه حسين سعى إلى مشروع تعليم ومحو أمية وثقافة وطنية تواجه ولا تعادي الثقافة الغربية بل تنظر لها كمكون شريك في الحضارة الإنسانية وليس كعدو وفق ما تروّج له خطابات دينية منغلقة ذات نفس طائفي ثقيل». «والآن ليس هناك مستقبل للثقافة في مصر بمعزل عن مشروع قومي للتحرر الوطني ولبناء الدولة الوطنية المصرية من أعداء الداخل كقوى الفساد والرجعية، ومن أعداء الخارج والمشاريع الاستعمارية الغربية؛ مشاريع الهيمنة السياسة والاقتصادية والثقافية».
الشاعر وائل فتحي يرى في ذكرى طه حسين فرصة لمناقشة علاقة صاحب «دعاء الكروان» الحية بالأجيال الشابة، فـ«مَن يهتم بالثقافة المصرية وتاريخها، يعلم الكثير عن ذلك الجانب، وهو ما يمكن أن يسمى «المعارك الثقافية» التي تعكس حراكاً ثقافياً واجتماعياً وقتها.
وهو أكد لنا الرغبة الحقيقية في النهوض بالإنسان ومن ثم الوطن، خصوصاً عبر النقاشات التي دارت بينه وبين الناقدين الشابين آنذاك محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس». ويضيف صاحب ديوان «العادي ثائراً وشهيداً»: «تظهر صفحات «أخبار اليوم» حينها ــ وهي إحدى الجرائد القومية التي في متناول المواطن المصري ــ كيف كانت هناك مشاريع مصرية نهضوية حقيقية، تتمثل في التباين بين المشروع الليبرالي العقلاني الذي حمل لواءه صاحب «مستقبل الثقافة في مصر»، وبين المشروع الاشتراكي ذي الجذور الماركسية لصاحبي «في الثقافة المصرية» محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس. واللافت أنّها لم تكن معارك تقليدية، حيث جيل جديد يحمل أفكاراً، يراها الجيل القديم مجرد تمرد.
لم يكن طه حسين صاحب دعوة إلى الرجعية، بل حمل مشروعاً تنويرياً، وكان هناك صراع بين أفكار حية. وما زاد من حيوية الصراع هو تقبّل طه حسين للمبارزة من دون تجاهل الأصوات الشابة الجادة، حتى إنه ذات مرة قال لهم «إنكّم تتحدثون دائماً عن الثورة، لكنكم لا تتقنون فنّ العمل الثوري»، وهو ما دفع العالِم إلى التحدي والانخراط في العمل الشيوعي بعدها، وقد صقل ذلك تجربته وفتح لها آفاقاً واسعة».
التشكيلية تغريد الصبان ترى أنّ تجاهل المؤسسات لذكرى طه حسين هو نوع من اتفاق ضمني على التعامل مع ذكراه وتراثه بحالة من الفتور إلى أن يمحى من الذاكرة العربية، مضيفة: «ليس طه حسين فقط، بل إن المؤسسات تتعامل مع جُلّ مفكرينا وفنانينا بفتور، ولا تعنى سوى بمؤتمرات غرف الدردشة التي لم تقدم يوماً شيئاً للسياسة الثقافية ولم ينتج منها مشروع ثقافي يرتقي بالإنسان».
وتشير الصبان إلى أنّ منجز طه حسين مستمر ومتجدد، وما زال يحمل الكثير من الأفكار التقدمية التي «لا تزال ــ للأسف الشديد ــ قيد دفّتي كتبه ولم يستفد منها المصريون بعد. الوضع لم يتغيّر كثيراً عن زمن «عميد الأدب العربي».
وبالتالي لا بد من إعادة قراءة فكره وأدبه، لأنه علينا أن نبني فكرنا الجديد وننتج نظرية نقدية حقيقية ونكون قادرين على هدم الأفكار القديمة وتفكيكها وخلخلة ثباتها الذي تشرنق على نفسه ليصبح سداً منيعاً للتطور والتجديد».