يوسف القعيد *كلّما رحل عن عالمنا أحد كبار نقّاد الواقعية الاشتراكية، أشعر بنوع من اليتم بعد زحف عدد من الأفكار التي تواجه مفهوم الالتزام في الأدب بزعم أنّ الانحيازات لقيم الحرية والعدل الاجتماعي تأتي على حساب جمالية العمل الفني ذاته. وهي واحدة من الأفكار التي كشف محمد دكروب زيفها في مجمل إنجازه النقدي وفي حياته. إذ يصعب الفصل بين الحياة التي عاشها والأفكار التي بشّر بها. حتى نهاية حياته، ظلّ قابضاً على جمر الأفكار التي انحاز لها ولم يغيّر، ولكنه تطور وانحاز لأصوات وأسماء جديدة انعكس حضورها في كتاباته وعمله في الأعداد الأخيرة من مجلة «الطريق».

المؤكد أنّ ثقافتنا العربية خسرت دكروب في لحظة فارقة، حيث يتعرض عالمنا لهجمة أصولية شرسة تكاد تقتلع كل الأفكار التي ناضل من أجلها كمثقف متنور ومنشط سياسي احتفظ لسنواته الأخيرة بشباب يندر أن يتكرر. ومما يزيد من درجة الأسف أنّ الأجيال الجديدة من المفكرين والسياسيين لم تبلغ ما بلغه دكروب من رحابة فكرية، وإيمان بالتنوع. حتى إنّه يصعب أن تعرف أين ينتهي الفكر ليبدأ الأدب في حياته لأنّه صهرهما معاً في تركيبة إنسانية بالغة العذوبة.
لا أزال أتذكر الى اليوم نظرته الإنسانية الأكثر شمولاً لعطاء نجيب محفوظ الأدبي. كرّس ملفاً كاملاً في مجلة «الطريق» بعد فوز محفوظ بـ«نوبل»، واستطاع أن يتجاوز بهذا الملف النظرة التي شاعت في بعض أقطار العالم العربي وسعت الى تسييس الجائزة وربطت بين الحصول عليها والمواقف السياسية لصاحب «أولاد حارتنا». لكن دكروب بضمير الناقد كان أكثر بصيرة من الآخرين وأعطى لـ«الطريق» مذاقاً ميّزها عن المجلات المنافسة في ذروة عصر المجلات الفكرية والأدبية. وكنت أتمنى شخصياً ًلو أتيحت لي فرصة قراءة مذكراته لأتعرف أكثر إلى الظروف التي عملها فيها، ولا سيما بعد تعثر المجلة وعدم قدرتها على الانتظام في الصدور. وفي كل الأحوال، سيبقى دكروب في ذاكرة جيلي أقرب الى يد لم ينقطع العطاء عنها وامتدت إلينا جميعاً وباتساع أحلامنا.
* روائي مصري