في معرضها الحالي «بروفات» الذي تحتضنه «غاليري أجيال»، تغوص تغريد دارغوث (1979) أكثر فأكثر في الاشتغال على مشروع أو على مفهوم محدد. الأفكار المسبقة التي تكرّرت في معارضها السابقة، قادتها إلى نوع من الممارسة المفاهيمية التي يختلط فيها الفن بالنقاش السياسي والثقافي والسوسيولوجي.المذاقات المعاصرة في تجربتها تستدعي ما هو معاصر أيضاً في ثقافة الفرد والمجتمع. اشتغالها على المفاهيم أبعدها عن تقاليد اللوحة العادية، وجعلها أقرب إلى نتاج التجارب الجديدة في المحترف اللبناني، وأقرب بالتالي إلى فنون الفيديو والتجهيز، رغم أنها تفعل ذلك في المساحات التي يوفرها الرسم فقط.

اشتغلت الرسامة اللبنانية على موضوع الدمى والمانوكان، وعلى عمليات التجميل، وعلى صورة الخادمات، بينما معرضها الأخير قبل عامين كان مستوحى من تسمية البرنامج النووي البريطاني باسم «قوس قزح»، ومن أهوال الموت والدمار المفترضة في الألوان المشرقة والسعيدة للاسم.
المعرض الحالي أشبه بجزء ثانٍ لما رأيناه في ذاك المعرض. الدمار الكوني الذي تُرجم برسم أنواع القنابل النووية، وأشكال الفطر العملاق الناتجة من تجارب تفجيرها، والجماجم البشرية التي تبقى شاهدةً على ضحاياها، يتواصل هنا في تفجيرات مماثلة وفي الحفر الضخمة والعميقة التي يمكن أن تخلِّفها هذه التفجيرات. كأنّ الرسامة تستكمل الجزئيات التي لم تقدمها في المعرض السابق. الحُفر التي تبدو مثل فوهات البراكين أيضاً، مرسومة بأكثر من طريقة. من الأعلى، ومن زوايا جانبية وحدها أو مع مساحات شاغرة تحيط بها. هناك جدارية ضخمة مؤلفة من 20 لوحة صغيرة تستقبل كل واحدة منها حفرة نووية. بينما الفطر النووي موجود في 5 لوحات مصفوفة بجوار بعضها البعض. الحفرة والانفجار حاضران بشكل منفرد في لوحات بقياسات أكبر. في لوحات أخرى، نرى جانباً من حفرة مع الخلاء النووي حولها، أو نرى الخلاء وحده في لوحة كاملة، بينما نرى في 12 لوحة متجاورة أشكالاً من كاميرات المراقبة التي تُوضع في مخازن ومستودعات هذه الأسلحة وغيرها من الأماكن طبعاً.
الألوان الكالحة المصنوعة من تدرّجات الرمادي والترابي والأخضر الزيتي، تعزز الصور التي في أذهاننا عن هذا النوع من الدمار الذي شهده العالم مرة واحدة في قصف الطائرات الأميركية لهيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. التهديد المستقبلي الذي يحمله السلاح النووي هو الفكرة الجوهرية للمعرضين السابق والحالي. هناك واقعية فوتوغرافية في هذا النوع من الرسم الذي يشتغل في خدمة الفكرة المسبقة للمعرض، إلى درجة أنّ اللوحات تصبح ترجمات مباشرة أو أشكالاً توضيحية للفكرة. يثير ذلك تساؤلات عن محدودية الخيارات المتوافرة للفنانة نفسها، والتضييق الذي (قد) تمارسه الفكرة على حريتها في تأليف أو إنجاز لوحات مفاجئة. تساؤلات مثل هذه لا تنفي القوة التعبيرية الموجودة في المعرض، ولا تُنسينا الصلات التي تصنعها الفنانة مع تجارب طليعية في الفن المفهومي، ومع ممارسات معاصرة أخرى تشتغل على «شعرية» الموت والنفايات وأنماط السلوك البشري. هناك سردية جذابة في العناصر التي تشتغل عليها تغريد دارغوث التي تبدو للوهلة الأولى أشكالاً دقيقة مطابقة لصور أصلية أو متخيلة. إلا أنّ نظرة تأملية أخرى تكشف للزائر أن المعرض قادر على إثارة انطباعات تتجاوز فكرة المعرض. انطباعاتٌ تنشأ من الزّخم اللوني في بعض اللوحات، ومن الإيحاءات التجريدية التي تبثها التفجيرات النووية والحفر التي تخلّفها، ومن أهوال الرؤيا القيامية المهددة بنهاية العالم. لسنا هنا أمام لوحات ينبغي أن تكون جميلة أو لا. إنّها تفتح سجالاً سياسياً وأخلاقياً أكثر من كونها خلاصة لممارسات وتقنيات فنية.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | hbinhamza@


«بروفات»: حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «غاليري أجيال» (شارع عبد العزيز / الحمرا). للاستعلام: 01/345213