حضور يوسف الصديق (1943) في فرنسا عبر كتبه التي اهتم فيها بالثقافة العربية الإسلامية، وخصوصاً النصّ القرآني، لم يرافقه حضور مماثل في تونس. ذلك أنّ أهمّ كتب الصديق صدرت بالفرنسية في باريس. لكنّ صدور الترجمة العربية لكتابه Nous n’avons jamais lu le Coran بعنوان «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها؟» أعاده إلى الواجهة في شارع ثقافي وسياسي مشغول بالسؤال عن الدين بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس، وما مثّله ذلك من «انقلاب» تاريخي على تقاليد الحكم في بلد أراد له مؤسّس الجمهورية الحبيب بورقيبة أن يكون على خطى الغرب، وخصوصاً فرنسا المستعمر القديم. كتاب يوسف الصديق (صدر عن «دار محمد علي الحامي» و«دار التنوير») أهداه «إلى شباب تونس وشاباتها، أملاً في أن يغيّروا هم ما بأنفسنا وأن يفتحوا على مصراعيه باب القراءة، قراءة العالم والنص كما يقرأ الفلكي صفحة السماء». يبحث الكتاب الذي صدر بالفرنسية عام 2005، في ما سماه الصديق «الحدث القرآني»، مفككاً إشكاليات القراءة في محاولة للإجابة عن سؤال مركزي «ما الذي جعل القرآن غير قابل للقراءة إلا بوساطة رجال الدين؟»
والسؤال الثاني: «من الذي بوأ رجل الدين سلطة التعهد بقراءة ما، ثم الأمر بترديد ما وقف عليه؟». في زمن سطوة الدعاة الذين حوّلوا الإسلام من دين رسالته التسامح والرحمة إلى دين للتشجيع على القتل والتكفير، تشكّل قراءة يوسف الصديق للقرآن مسألة أكثر من ضرورية. يندرج جهده في هذا الكتاب وغيره من الأعمال التي اهتم فيها بمسائل فقهية وتراثية، في سياق مدرسة تونسية من أبرز منظريها محمد الطالبي، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفي، وآمل قرامي، وألفة يوسف، ونائلة السليني، وحمادي الرديسي.
يناقش الصديق آراء بعض المستشرقين والفقهاء والمؤرخين مثل مكسيم رودنسن والبلاذري والبخاري والسجستاني وابن المقفع. يحلّل بعض السور القرآنية، معتبراً أنّ كتاب «رسالة الصحابة» أوّل مؤلف نثري و«محاولة ساخرة في تقليد النص القرآني» للتشكيك في قدسيته، ما كلّف ابن المقفع حياته. يرى الصديق أنّه لم يجرِ التعامل مع النص القرآني بوصفه فكرة، و«لم يسبق أن نُظر إلى القول القرآني على أنّه فكر، كما لم تقم يوماً دراسة حوله باعتباره كذلك. الفشل الذي مني به كاتب كابن المقفع الذي كان أول من استعمل لفظ «فيلسوف» ضمن نص عربي، يؤكد أنّ فكر الإسلام منذ تحوله لحظة ظهور القرآن لم يجر تناوله إلى يومنا هذا إلا في أعقاب إنشاء ثانوي». في هذا الكتاب، يعيد الصديق الاعتبار إلى ابن المقفع الذي حوّلته «المؤسسة التقليدية الإسلامية» إلى مجرد كاتب أمثال لا يعرف من سيرته إلا كتاب «كليلة ودمنة». يؤكد الصديق أنّه منذ سقوط الدولة الأموية، عمل ابن المقفع على تفكيك استراتيجية مؤسّسة التفسير التي تقوم على عنصرين أساسيين هما «كونية النص القرآني» والرفض المطلق «لأي ترجيحات أو خيارات في تصحيح البناء الأولي» الذي صاغه الصحابة.
كتاب أثار ضجة لدى صدوره في فرنسا عام 2005، ويقول الصديق إنّه لم يغير شيئاً في الترجمة إلى العربية التي أنجزها منذر ساسي، عدا بعض الهوامش. كذلك اختير عنوان أقلّ استفزازاً للقارئ العربي الذي يعاني من حجاب أفق القراءة الذي كرسته القراءات «المتجلّدة» على حد تعبير الصديق. في شارع ثقافي مكتظ بالأسماء والعناوين بعد سنوات من التضييق، يبقى يوسف الصديق اسماً استثنائياً. درس الصديق الفلسفة، وعمل طوال سنوات في الصحافة التونسية، وتحديداً في جريدة «لابراس» الناطقة بالفرنسية قبل أن يستقر في باريس. ولعل ما منح الصديق تميزاً في مقارباته للدين، وخصوصاً الإسلام في فترته المحمدية التأسيسية، هو انحداره من عائلة تقليدية من أقصى الجنوب التونسي، ما مكنه من حفظ القرآن في عمر مبكر، فضلاً عن إلمامه العميق بالتراث العربي وكتب الفقه ومراجعه الأساسية.
منذ صعود الإسلاميين إلى الحكم، أصبح يوسف الصديق هدفاً معلناً لأنصار «النهضة» والأحزاب الإسلامية من خلال حملات تشويه صورته على مواقع التواصل الاجتماعي. ووصل الأمر إلى حد منعه من تقديم محاضرات في بعض المدن في تونس وتعرّضه لاعتداء جسدي من شباب لم يقرأوا له حرفاً واحداً، ولم يحترموا شيخوخته ولا حالته الصحية كشيخ يكاد يفقد البصر. ورغم التهديدات التي يتعرض لها واتهامه بالكفر والإلحاد، ما زال «الشيخ الزيتوني» بلسان فرنسي، مصرّ على مواصلة مشروعه التنويري وتفكيك المنظومة الفقهية التي أنتجت الاستبداد والتطرف نتيجة الجهل بمقاصد الإسلام كدين يدعو إلى التسامح والمحبة والعقل ضد القراءات الوهابية من دعاة «بول البعير» و«إرضاع الكبير» وغير ذلك من مصطلحات البؤس الفكري الذي انتشر كالسرطان في العالم العربي، وخصوصاً في دول «الربيع» التي يتعرض مشروعها التحديثي لهجمة منظمة وممنهجة لتدمير إرثها الثقافي كما يحدث في مصر وتونس.