في باكورته «أجلس أحصي المتناثر سهواً من عمري» (دار نلسن)، يكتب جورج شلهوب نصوصاً تشبه ما نقرأه في أغلب المجموعات الشعرية الأولى، حيث المزاج الشخصي هو المستودع الأساسي الذي تخرج منه هذه المقاطع والقصائد القصيرة المكتوبة بضمير المتكلم، وحيث الشعر هو ترجمة مباشرة لأفكار وتخيلات ومشهديات لا تبتعد كثيراً عن هذا المزاج. الشخصي والمزاجي يسرّعان الكتابة، فلا تأخذ ما يلزمها من تأملات بطيئة يمكنها أن تخفف عاطفتها الزائدة، ولا تجد الوقت الكافي لكي تجرّب خياراتٍ أخرى لتأليف الصور والاستعارات والنهايات. هكذا، يصبح هذا الشعر لطيفاً أحياناً، ومقنعاً أحياناً، ومدهشاً أحياناً، ولكن هناك شيءٌ ما مفتقدٌ فيه. شيءٌ لا نعرف بالضبط ما هو، ولكننا نعرف أنه قادرٌ على رفع جودة هذا الشعر، ودفعه إلى مغادرة هذه المنطقة المتوسطة والعادية التي تصنع انطباعات متوسطة وعادية أيضاً. لا نقرأ أشياء ساذجة أو فجّة في مجموعة الشاعر اللبناني الشاب، ولكننا لا نجد أشياء مفاجئة أيضاً. يحاول الشاعر أن يحفّ كتابته بتجارب شعرية قوية. يُهدي الديوان للشاعر الراحل بسام حجار.
يكتب بلغة نثرية تخلط الأفكار الذاتية باليوميات العابرة: «كانت المرآة/ كعجوز يتهجّى الأسماء/ يده تتناهشها وحوش/ لا تقتلها، ولا تبقيها حية/ كانت المرآة تعكس أنامل/ تقطر زجاجاً/ تلك الليلة/ انشقّ التراب بالعاً وجهه/ لم يستطع انتشال نفسه/ على الأقل أن يسرّح شعره/ أو يرش العطر الذي يحب/ كان يريد أن يبتسم/ ترك عينيه تسبحان/ في إناء حربٍ توقعها/ نكايةً بالمرآة/ قهقه/ حتى انهمرت دموعه/ وأفاق». أحياناً يصبح الشعر فكرة طريفة كما في «التي أحببتُها/ تزوجتُها/ لئلا أطلّقها/ أقمنا معاً/ في القصيدة»، وكما في «مرةً جربتُ أن أصادق غيمة/ بعد حين/ فوق البحر/ كراقصة ستربتيز/ رأيتها تتلوى/ من بعيد/ تُلقي إليّ بقبلة».
هذا المذاق المعاصر أو لنقل النبرة الشبابية منتشرة في قصائد أخرى أيضاً: «ذاهباً إلى الحمام/ وجدتني على الشرفة/ عوضَ أن أجلب مفاتيح السيارة/ حملتُ مفاتيح البيت/ بمعجون الأسنان/ حلقت ذقني/ بدل أن أقفل الباب/ أشعلت الغاز/ حسناً/ بدل أن أزاول رياضتي المفضلة/ سأنام». العزلة جزء من هذه النبرة: «خلف الستائر/ أسرار نوافذ/ وفتنة غياب/ في داخل البيت/ أنقِّط ذكريات/ أتبادل الأنخاب معي». في مقاطع أخرى، نعثر على صور لافتة مثل «الحياة/ سخّنتها على درجة عالية/ من الأحلام»، و«الليل يُضيء القمر/ كما ذنوب الناسك/ تضيء القربان»، و«كي لا أسمع أحداً/ أصرخ». في المقابل، نقرأ صوراً عادية مثل «كلما غادرني أحدهم/ ألملم/ ما بعثره/ من ذاتي/ وأعيد تركيبها/ من جديد»، و«أيها الشعر/ تُغيّر كثيراً/ ولا تغيّر كثيراً/ من يفكك؟/ من يفسر؟»، و«ثمة من يقرع الأبواب/ التي نحتمي خلفها/ ثمة مطر يلح في الدخول/ لا يحب نطقنا سلاحنا/ رغم ذلك/ يظل الكلام/ درع الوهم/ ولسنا سوى خاسرين». هكذا، نعود إلى صفة «التفاوت» التي تحكم هذه الكتابة المحكومة بدورها بشعر البدايات الذي يعدنا بنضج قادم، بينما يعوم حالياً في هذا التفاوت الذي ربما يدوم أكثر، ويصبح سمةً ملتصقة بالتجربة كلها. فلننتظر.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza