«احتجت بعض الوقت قبل أن أدرك أن مشروعي الإحيائي التاريخي كان في الواقع سلسلة من البقع العمياء. لقد استغرق الأمر سنوات كثيرة كي أفهم أنني أنا نفسي كنت بقعة عمياء». بهذه الخلاصة، ينهي فنان الجاز الإسرائيلي جلعاد عتسمون (1963) كتابه «من التائه؟ ـــ دراسة في سياسة الهوية اليهودية» الذي صدر بالإنكليزية عام 2011 وانتقل أخيراً إلى المكتبة العربية عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» (ترجمة حزامة حبايب). الكتاب سيرة موسيقي إسرائيلي هجر «أرض الميعاد» بعد اكتشافه عن كثب «وهم خصوصية الهوية اليهودية»، والحيف التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين بذرائع صهيونية قامت على اختراع وطن قومي لليهود، لم يكن موجوداً يوماً، فهو مجرد خطأ جمعي يميل اليهود إلى ارتكابه كل مرّة يرجعون فيها إلى ماضيهم الجمعي الوهمي، وفقاً لما يقوله المؤرخ في «جامعة تل أبيب» شلومو زاند. وتالياً، فإنّ «الشعب اليهودي» فكرة مختلقَة، تتألف من ماضٍ متخيَّل، مع غياب أدلة قوية تدعم هذه الفكرة شرعياً أو تاريخياً أو نصيّاً.
حتى فكرة «المنفى اليهودي» هي مجرد أسطورة خلقتها المنظمات الصهيونية لتبرير وجودها فوق أرض مغتصبة بالقوة، وليس بأوامر من الرّب، فقد غابت النصوص حول التاريخ اليهودي بين القرن الأول وأوائل القرن التاسع عشر، «وقد يكون لاستناد اليهودية إلى أسطورة تاريخية دينية علاقة ما بهذا الأمر».
هكذا كان على الإسرائيليين الجدد أن يجندوا العهد القديم لتحويله إلى مجموعة قواعد موحّدة خاصة بمستقبل الشعب اليهودي، و«تأميم الكتاب المقدّس» لغرس الفكرة في عقول اليهود بأنهم السلالة المباشرة لأسلافهم القدماء العظام؛ إذ تمّ تجريد الكتاب المقدّس من معناه الروحي والديني والنظر إليه كنص تاريخي يصف سلسلة «حقيقية» من الأحداث في الماضي، فيما كشف البحث الأثري المستقل عن العقيدة الصهيونية عن حقائق مزعجة. علم الآثار وفقاً لما يقوله هذا المفكر المثير للجدل «يدحض تاريخانية الكتاب المقدّس، وهو في أفضل أحواله مجموعة من النصوص الأدبية الإبداعية التي كتبها عالم لاهوتي في فترة متأخرة».
يقشّر جلعاد عتسمون الهوية اليهودية، كما لو أنها ثمرة معطوبة، وينبش أحشاءها برؤية نقدية صارمة، تكشف حجم الخزي الذي ألحقته الفكرة الصهيونية باليهودي والآخر معاً. هو يرى أنّ «السمة القبَلية للهوية اليهودية أسهمت في تعزيز إيديولوجيا عنصرية، واستعلاء عرقي، وبقائمة لا حصر لها من الجرائم ضد الإنسانية». يروي عازف الساكسفون الذي يعيش في لندن منذ عام 1994 كيف جلبت أفكاره المعادية للصهيونية أعداءً له من مختلف المشارب الإيديولوجية الإسرائيلية «إلى درجة أنّ الكراهية قد صاغت الخطاب السياسي اليهودي العلماني بالكامل».
كيف للإسرائيلي أن ينعتق من تعاليم أسطورية تضغط على حياته في البيت والشارع؟ وما هي حصيلة مئة عام من العزلة اليهودية؟ يجيب جلعاد عتسمون: «أعتبر نفسي فلسطينياً يتحدث العبرية»، وبخصوص الخلط بين الإثنية واليهودية لدى بعض العلمانيين الإسرائيليين، يراه «سلسلة لانهائية من الكوارث»، و«جدلاً مستمرّاً بين القدس وأثينا»، وبمعنى آخر «محصِّلة أخرى للاضطراب العصابي الجمعي الصهيوني». يرى عتسمون أنّ مشكلة اليهودي لا تنتهي في نظرته إلى نفسه فقط، بل في نظرة الآخر إليه؛ فالهوّة بين ما يخال أنه عليه، وما هو عليه فعلياً، شاسعة إلى حد كبير، ذلك أنّ الوحشية التي مارستها إسرائيل في حروبها ضد الفلسطينيين لا يمكن تغطيتها بغربال، فـ «كلما أمعن الإسرائيليون في سعيهم إلى تأمين نفسهم عبر التشبّث بالعزلة، ازداد حجم الموت الذي ينشرونه حولهم». الصهيونية في المآل الأخير «شبكة عالمية لا رأس لها، إنها روح، والروح لسوء الحظ لا يمكن إلحاق الهزيمة بها. ومع ذلك يجب فضحها لما هي عليه» يقول. هكذا يتخذ مصطلح «اليهودي التائه» منحى آخر، كمحصّلة لاختراع الصهيونية العالمية «الأمة اليهودية» لتحقيق وطنها القومي، وهذا التيه يتأرجح في الواقع بين يهود الشتات الذين تلهمهم الفانتازيا الصهيونية لإسرائيل بالعودة، ويهود «أرض إسرائيل» الذين يفكرون بالهجرة والهرب من حياتهم المحاصرة باطّراد.
ويفجّر صاحب «دليل الحائر» لغماً يتعلّق هذه المرّة بفكرة المنفى اليهودي. الدراسات البحثية التي لجأ إليها لا تشير إلى نفي اليهود تاريخياً؛ «فالرومان لم ينفوا الشعوب، كما لم يكن بمقدورهم القيام بذلك حتى إن أرادوا»، وتالياً فإن المجتمع اليهودي لم يُشَتَّت ولم يُنفَ، وكل ما هنالك أنّه اختُطف على يد حركة قومية مبنية على أساطير توراتية، ثم أُضيفت إليها «ديانة الهولوكوست»، هذه الديانة التي اتكأت على معاناة اليهود لإصدار رخصة دائمة بالقتل والتدمير والإبادة والسلب والتطهير العرقي، بوصفها حقيقة أزلية تتخطى الخطاب النقدي، وإذا بها بمعاضدة المنظمات الصهيونية العالمية تحوّل الانتقام إلى قيمة غربية مقبولة «إذا لم نقل بأنها شكل جديد من العبادة، فكل يهودي هو إله صغير محتمل». والمفارقة في المسألة اليهودية ــ كما يشير إليها جلعاد عتسمون ــ أنّ اليهودية «تزدهر في المنفى، لكنها تفقد زخمها ما إن تصبح مغامرة محليّة». لا تتوقف معضلة إسرائيل اليوم عند مهووسي «شعب الله المختار»، بل تتعداها إلى أصحاب الخطاب اليهودي التقدمي، في محاولاتهم لإخفاء التناقضات والتضاربات الإيديولوجية تحت السجّادة. وينبّه جلعاد إلى أن الهولوكوست «هي التي جعلتني في النهاية مؤيداً مخلصاً للحقوق الفلسطينية والمقاومة وحق العودة للفلسطينيين». ليس لدى هذا الموسيقي المهاجر حلّ سحري للمصالحة والتسامح بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا في حالة واحدة: أن يتخلّص الإسرائيليون من كل آثار التفوّق الإيديولوجي اليهودي «وكي تقود الدولة اليهودية مبادرة سلام، لا بد من تجريد إسرائيل من الصهيونية».
أفكار كثيرة يحفل بها كتاب جلعاد عتسمون الذي أثار الكثير من الجدل، واعتبره حتى المناصرون للقضية الفلسطينية أنّه يسيء إلى القضية بسبب النَّفَس المعادي للسامية الذي يتسلّل إلى تحليله لتاريخ اليهود وهويتهم وثقافتهم إلى درجة اندراجه في «خط إيديولوجي تحريفيّ الطابع». في آذار (مارس) 2012، أصدر عدد من المثقفين والناشطين والمفكّرين العرب والفلسطينيين المعروفين من بينهم جوزيف مسعد، وعمر البرغوثي (الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها») بياناً طالبوا فيه الناشطين والمناضلين وأصدقاء ومناصري القضية الفلسطينية بالتنديد بمواقف عتسمون الذي وصفوه بـ«العنصري والمعادي للسامية».