الأم راقية وأنيقة، يبدو ذلك من فولارها العنّابي وقرطيها الحمراوين وتسريحتها الشينيون. أم متفانية في تربية ابنها النظيف الحلو المرتّب المهذّب المطيع. تحيطه بالعناية والحنان، وتبدو حريصة على تهذيبه وتعليمه، وتتكلّم معه الفرنكو آراب. تودّع فلذة كبدها أمام مدخل المنزل الراقي الذي تفوح منه رائحة السعادة والازدهار والطمأنينة، وتوصيه بأن يكون sage بالـ école، (للأوباش الذين لم يفهموا، أن يكون عاقلاً في المدرسة). Bisous, bisous تقول على عتبة البيت لابنها ربيع (تحيّة إلى «الربيع العربي» قولكم؟).
ربيع لطيف ومطيع ومهذّب ويردّ على أمّه بالفرنسيّة، صبي مثالي يعني، يحمل شنطته المدرسيّة ويمضي، جذلانَ يمرح تحت سماء لبنان الأخضر كالنسيم مدندنا. كان يمكن هذا المشهد أن يكون دعاية لماركة ألبان وأجبان، أو لوازم مدرسيّة، أو مشروع عقاري… لكنّه في الحقيقة مشهد كوميدي من برنامج انتقادي ساخر على محطّة لبنانيّة... راقية هي الأخرى.
يعود ربيع من المدرسة، يتسلّق درجات البيت الجميل كجمال لبنان، بلد العسل والبخور. الأم ذات الشينيون، تستقبل قرّة عينيها على الباب. ما زالت على حالها بالأناقة نفسها بالفولار العنّابي والقرطين. لا شك أنّها لا تطبخ ولا تنفخ ولا تكنّس كما كانت تفعل أمّهاتنا، ولعلّها أمضت ساعات النهار في عرض أزياء، أو احتفال رسمي، أو برنامج صباحي في استوديو التلفزيون. حياة سعيدة، كل شيء فيها يوحي بالسعادة، لولا تلك المفاجأة التراجيديّة التي ستقلب مجرى الأمور. ذهب الولد صباحاً وهو يترْغِل بلغة موليير، لكنّه عاد آخر النهار يتكلّم بلهجة طلسميّة غريبة، لا بدّ أنّها لغة الهمج والأوباش، بدليل علامات الذعر التي ارتسمت على وجه الأم المسكينة. «مون آمور، مون آمور، مون آمور يا حبيبي، كيف كانت الـ école اليوم؟». ويجيب الصبي الشاطر: «تمام يامو». ويضيف: «لعبنا طمّامة أنا ورفقاتي». يا ويلتاه؟ هل بلع ربّوعة تلفزيون يبث مسلسلاً سوريّاً؟ تسأل الأم اللبنانية المذعورة وقد مغط قرطاها واتسع بؤبؤاها من هول ما تسمع: «مامي حبيبي ليه عم تحكي هيك؟». الصبي اللبناني الذي طُمست هويّته من حيث لا يدري، يرد باللهجة السوريّة: «شنّو كل رفقاتي السنة بالمدرسة بيحكوا هيك».
«ما في متلو» هذا الاسكتش الساخر على mtv، لأنّه ترجمة دقيقة وأمينة لفلسفة الوزير جبران باسيل ـــ بل قل برنامجه الانتخابي ـــ لمعالجة ملفّ النزوح السوري إلى لبنان. صنّاع البرنامج والوزير الإصلاحي ينهلون جميعاً من معين الوعي الغيبي الشوفيني الانعزالي نفسه بلا شك، ويلعبون على الخوف نفسه، ويتوسّلون الكليشيهات نفسها التي تحوّل العنصريّة إلى نهج وطني أو أحد الفنون الجميلة. كثافة التلامذة السوريين في مدارس بعض المناطق اللبنانيّة، لا يمكن أن تطاول الطبقة والبيئة التي يتناولها كاتب «ما في متلو». لكننا نتمنّى لكل اللبنانيين المستلبين الذي يتكلّمون بلغة هجينة ملؤها الكلمات الفرنسيّة المستعملة بركاكة، كأحد تجليات التمايز الحضاري والرقيّ الطبقي، أن يعاشر أولادهم أبناء السوريين كي يتعلّموا منهم يحكوا «هيك»، أي العربيّة الأصيلة التي يتقنها العامل في بلد الماغوط، مثلما يتقنها أستاذ الجامعة.
لكن المشكلة أخطر طبعاً، تكمن في تشجيع النظرة الاختزاليّة إلى الأمور، وتحميل شعب مذبوح كل أحقادنا وخوفنا وجهلنا وعنصريّتنا الفطريّة. في جريدة «البلد» نقرأ مثلاً أن النزوح يسبب عنوسة الصبايا في لبنان. وما زالت أرقام جبران باسيل التقريبيّة، وإحصاءاته المضحكة المبكية تطنّ في أذهان المواطن اللبناني الصالح الذي سيصدّق أن مشاكله من النازحين السوريين لا من الطبقة السياسيّة البائسة التي ينتمي إليها باسيل: كل سوري «يكلّفنا» ٣٠٠٠ دولار سنويّاً، قال الوزير، وهناك جيش من ٤٠ ألف مقاتل نائم في زوايا مدننا، وعتمة أحيائنا! أما mtv التي لبست ثوب الحداد عندما عدل الكاوبوي عن حملته التأديبيّة على المشرق لتسريع «الثورة»، فنجحت في شيء واحد على الأقلّ: الجمع بين دعم «الثورة» بأي ثمن، وتحريض اللبنانيين على ضحاياها!
يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@
12 تعليق
التعليقات
-
ل تريدنا أن نتفرج على بلدنا يرزح تحت اعباء اقتصادية وأمنية ـ الإيديلوجية شي والحروب والواقع شي تاني ـ الشعب اللبناني معروف أنه مضياف وكريم ولكنه عانى الويلات من ال 75 لليوم ـ الحساسية اللي خلقها النظام السوري في لبنان وأحتلال لبنان ومعاملة حكامه وشعبه معاملة زفت ، السجون والخطف والنهب وحالة الفوضى وعدم الأمن بالبلد طفح الكيل منه وهذا لم نفهمه مطلقاً كيف سمحت كل الدول الكبيرة التي تدّعي الديمقراطية بكل هذا العنف والتدمير من قبل سوريا من ناحية والدولة الصهيونية من ناحية أخرى ـ ما في لبناني بعقله وقواه الطبيعية ما أنبهج وفرح بخروج الجيش السوري المحتّل من لبنان ـ لنرجع لموضوعنا : كل دول العالم الكبيرة والصغيرة خونة ومنافقين وبائعوا الموت وهم تجاره علناً ـ أهم شي وقف إطلاق نار ـ تقديم مساعدات لأهل البلد (أدوية ـ طعام ، حليب للأطفال وو) ـ مساعدة النازحين والمهجّرين السوريين من بلدهم إلى البلدان المجاورة (لبنان ـ الأردن ـ تركيا ـ العراق وغيرهم) ـ معاملة المواطن السوري كضيف في أوقات حرجة ـ والأهم من كل شي يمنعوا الحرب ويحلّوا عنهم للناس وين ما كان يكون أرى أن بيار أبي صعب كعادته إنسان كوني غير أنه هذه المرة متفاءل أكثر من اللزوم والظروف ما بتسمح بها الشي (مواطنة لبنانية في المهجر ، والحمدلله أنني بعيدة عن كل شي أسمه عرب) لأن صرنا جرصة
-
النزوح السوري خطر كبير علىالنزوح السوري خطر كبير على لبنان. ان كنت لا تراه فات اعمى. حذر ميشال عون عند بداية الازمة فاتهمتموه بالعنصرية, وواقع الحال انكم انتم من الداخل مجبولون بالعنصرية الى اقصى حد. هذه استراليا توصد بحرها وبرها بوجه النازحين حفاظا على امنها وشعبها وهو حق لها, فلمذا اذن على لبنان ان يبقى دوما الكف برقبته؟ اتعلم لماذا؟ لوجود مخلوقات مثلك يدعون الثقافة والرصافة والتحرر والماركسية, وانا اعرف مثلك الكثير واعرف ما بداخلهم من عقد. انشر يا قبضاي:)
-
متألق في الأسلوب الساخر ...أحييك استاذ بيار... صادق بشكل مش "إعلامي"!
-
شكرًاشكرًا أستاذ بيار على هذا المقال الأكثر من رائع... لقد نطقت بصوت إنساني خالص أحوج ما نكون اليه وسط حفلات الجنون التي نعيشها.. وحبذا لو أن بعض اللبنانيين ممن يدعون التميز والتفوق (المصطنع والعنصري طبعا) أن يفقهوا بعضا من أفكارك ولكن هيهات! يظن هذا البعض أن إتقانه للغة نابليون ستجعله فارس زمانه وتمنحه التفوق النوعي.. ولكن فاجعته الكبرى انه تقوقع في عالمه المنفصل عن الواقع وما يجري من حوله في العالم.. ليأتي هذا البعض إلى بلاد العم سام مثلا ويرى كيف أن الجاليات الهندية والآسيوية عموما بدأت تتفوق على أهل البلاد الأصليين وكيف وصل ابناؤها إلى أعلى المراتب والدرجات العلمية والثقافية .... لقد مضى زمن الادعاء النوعي ونحن اليوم أمام إرادة التفوق بالعلم والمثابرة وليس بالمستويات الاجتماعية المغلفة بالزيف والتخلف... شكرًا بيار أبي صعب الإنسان
-
لا بد أن يكون جان جاك روسو فخور ببيار ابي صعبتعال يا بيار ابي صعب لنحضن النازحين السوريين ونقدم لهم ثيابنا وبيوتنا وطعامنا ووظائفنا. ألا تفرح يا عاشق المساواة والعدالة بأن تصبح مدارسنا جميعها للسوريين؟
-
رائعمقال رائع
-
مع إحترامي لكاتب المقال لممع إحترامي لكاتب المقال لم أفهم المغزى، هل تريدنا أن نتفرج على بلدنا يرزح تحت اعباء اقتصادية وأمنية فقط كي لا نسمى عنصرين،ما يقوله جبران باسل هو ما يجري في أذهان معظم ال لبنانين
-
بقطع النظر عن الغرور اللبنانيبقطع النظر عن الغرور اللبناني التافه فان موضوع التلاميذ السوريين في المدارس الرسمية لا يجب التغافل عنه ... انه موضوع هام ودقيق لعدة اسباب : ١- تفاوت بين المنهاج اللبناني وبين المنهاج السوري مما اجبر خفض مستوى التعليم في المدرسة الرسمية وهو المنخفض اصلاً الى ادنى المستويات. ٢- اعدادالتلاميذ داخل الصف الواحد والتي قاربت ٣٥ تلميذ في الصف الواحد خاصة في صفوف الحلقة الاولى والثانية وهي الشريحة العمرية الطاغية بين التلامذة النازحين دون وجود اي مساعدة لمعلمة الصف مما يؤدي الى نتائج تعليمية كارثية. ٣- الظروف المعيشية والسكنية السيئة للنازحين وانتشار امراض ترافق هذه الاوضاع من قمل وجرب وسل ... ٤- الافكار التي يحملها بعض كبير من النازحين واهلهم على المستوى الديني المنسجم مع التكفير وغيره وتداوله بين الاولاد داخل المدارس والخطر الذي يشكله هذا الموضوع... لذا يا حضرة الكاتب المحترم الكلام الموسع عن برنامج ع التلفزيون مع الموافقة على رفض بعده العنصري الغبي واستغلاله للغمز من قناة وزير فلاني او علاني لا يفيد الموضوع ولا يغيير واقع الحال الفظيع والرديء ... احداً لم يستشر اهل التلامذة اللبنانيين في المدارس الرسمية اذا كانوا يوافقون على وضع ابنائهم في هذه الظروف ونحن نعرف جيدا ان احداً لا يعلم ابناءه في المدارس الرسمية الا لضيق الحال. هذا ما يجب الكلام عنه وهنا مكمن الوجع اما ما تبقى فهو ....