في كتابها الجديد «الأجنبية» (دار الآداب)، لا تكتب عالية ممدوح (1944) روايةً كاملة الأوصاف، ولا سيرةً شخصية متكاملة الأجزاء. ما نقرأه هو سردٌ حرّ يتحرك على حافَات الرواية والسيرة والخلاصات الذاتية من دون أن ينتمي إلى أيٍّ منها، بل إنه «انتهاكٌ» لهذه المقاييس المسبقة، بحسب تعبير المؤلفة في مستهلّ الكتاب. هكذا، جرى الاتفاق على توصيف إجرائي هو «بيوت روائية» على الغلاف، إلا أن القارئ سرعان ما ينسى ذلك حين تأخذه السرديات المكتوبة على شكل فصول منفصلة – متصلة إلى عوالمها المشوّقة.
يبدأ الكتاب بتلقي صاحبة «حبات النفتالين» إشعاراً من قنصلية بلدها في باريس يتضمن تهديداً قضائياً من زوجها بإعادتها إلى بيت الطاعة. مدخل مثير للسخرية يتزامن مع ماراثون كابوسي تخوضه المؤلفة لتجديد جواز سفرها، وتأمين إقامة قانونية طويلة في فرنسا. فكرة الإقامة تفتح السرد على محاولاتها اليائسة لتعلم اللغة الفرنسية بطلاقة، بينما الحضور إلى القنصلية يبدأ بإغراق السرد بالماضي العراقي الذي لا يمضي. لعل هذه الإحداثيات الشخصية هي التي تُشعرنا بأن الروائية العراقية تكتب شذرات من سيرتها، ولكن الحقيقة هي أن كل ذلك هو مواد أولية للكتابة. تستثمر عالية ممدوح هذه المواد بالمهارة ذاتها التي تكتب بها رواياتها. الفارق هنا أنها مُعفاة من تنظيم السرد في كتلة نصية واحدة. بطريقة ما، نحس أن محتويات الكتاب هي بقايا روائية فاضت عن حاجة رواياته السابقة، أو أنها مواد صالحة للتسرّب إلى روايات لم تُكتب بعد. توصيفٌ مثل هذا يتعزّز أكثر بتعدد المناسبات التي تتحدث فيها عن عملها ككاتبة. يبدأ ذلك من العمّة التي مزقت أول كراسة كتبت فيها حكايات مبكرة عن العائلة. العمّة التي ستحضر لاحقاً باسم «فريدة» في رواية «حبات النفتالين». الرواية التي سنقرأ أنها نُشرت عام 1986، لكنها انتظرت حتى 1993 لكي تحظى بالحفاوة التي تستحقها، وتترجم إلى لغات عديدة. بعد ذلك، نقرأ رثاءً عذباً للعمة والأب، ويختلط ذلك بالحديث عن طفولتها وحياتها البغدادية، وعن انتقالها عام 1982 إلى بيروت، وعملها في الصحافة هناك، قبل استقرارها لاحقاً في باريس. باريس التي تفرض عليها «قانون الاندماج»، بينما هي لا تزال ضحية خوفها العراقي المزمن. ولذلك تقول: «الأجنبية كنتُ هناك وما زلتُ هنا في فرنسا». خلاصةٌ تتكرر بطرق مختلفة في صفحات أخرى، فنقرأ إشارات مثل: «إنني من جيل عراقي لم يغادرنا الخوف ولم نغادره»، و«كنتُ أكتب وأنشر هنا وهناك، وأظن أن بعضاً من سيول الخوف ساحت على ذقني وثيابي ونصوصي». الإقامة في الهوية الأصلية تُعكّر صفو إقامتها المكتسبة والهشة، وتُكسب الفصول التي تكتبها عن ذلك جاذبيةً سردية تتفوق على محتوى هذه الفصول. الواقع أن هذه الجاذبية الأسلوبية الممزوجة بمرارات العيش والكتابة هي الطموح غير المعلن للكتاب كله. تروي صاحبة «المحبوبات» (جائزة نجيب محفوظ عام 2004) تفاصيل كثيرة عن حياتها العائلية وعن زواجها وعن محطات مسيرتها الروائية، إلا أن ذلك لا يشغلنا عن الأسلوب الذي تُكتب به هذه التفاصيل. قوة الكتاب موجودة هنا، في الحميمية السردية التي تتوالد منها كميات هائلة من الخوف واليأس والسخرية والطرافة. كأن المطلوب من هذه الكتابة أن تأخذ القارئ إلى الفناء الخلفي لحياة وأفكار صاحبة الكتاب. كأن القارئ مدعوٌّ إلى ملامسة الاحتياطي السري الثري الذي ظل يرفد المؤلفة بما تحتاجه من سيناريوهات وحبكات وجروح شخصية صالحة لرواياتها. هكذا، تصبح الوقائع والذكريات مجرد عظام لهذه الكتابة المنجزة باللحم الحيّ.
تهدي صاحبة «الولع» كتابها إلى أصدقائها وصديقاتها الذين سيسهم بعضهم في حصولها على جواز سفر جديد، وإنجاز ترتيبات إقامتها الفرنسية. في غضون ذلك، سنتلذذ بقراءة فشلها المتكرر في متابعة دروس اللغة الفرنسية، حيث يُسبّب لها الاندماج المطلوب «نوعاً من الأذى الجسدي والروحي»، كما أن «بعضنا غير قادر على الاندماج مع النفس تماماً، ولا مع الرجل الذي نُغرم به». ولذلك يصبح طبيعياً أن تكون صعوبات النطق بالفرنسية حرباً تشبه «الحروب المتوالية في بلدي وعلى بلدي».
على هامش هذه «الحرب»، تتوطد علاقة أخرى مع معلماتها المعجبات برواياتها المترجمة إلى الفرنسية. بالطريقة ذاتها، تُحدّثنا عن مشكلتها مع استعمال الكومبيوتر والانترنت، وتخبرنا عن شغفها «بالكتابة على الكراسة ذات السطور المنتظمة»، وعن الكتابة باليد التي «تهذِّب الحروف وتهدّئ من رَوْع السرد». أجنبية اللغة وأجنبية الكومبيوتر تتلاقيان مع فكرة «أننا لم نفلح لليوم أن تحبنا بلداننا كما نريد ونشتهي». كأن عالية ممدوح تعثر في الكتابة على وطن ثالث يؤمن لها ملاذاً أفضل من تأرجحها المؤلم بين مكان ولادتها ومكان إقامتها الراهنة. هكذا، تواظب هي على إحساسها بأنها أجنبية، ويصبح كتابها «أجنبياً» بين مؤلفاتها الروائية أيضاً.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




جمهورية الخوف

في طيّات الفصول التي ترويها عالية ممدوح، تتراءى شذراتٌ من زمنٍ عراقيٍّ أوسع. الخوف هو الذي يوحّد هذا «الرجع البعيد» لذكرياتٍ وأحداث شخصية وعائلية وثقافية. خوفٌ واظبت به السلطة السياسية والاجتماعية على تدجين الحياة وقص أجنحة الخيال وقضم أي مساحة ممكنة للحرية. في هذا السياق، تعترف المؤلفة بأن بيروت التي وصلتها نهاية السبعينيات كانت «الصدمة الثقافية الأولى» بالنسبة إليها، بينما في باريس التي أنجزت فيها أغلب رواياتها، حاولت تدريب كائنات رواياتها على فعل الحرية. ولأن الحرية مُعدية، فقد «واظبت على التعلم منهن جميعاً، ولو عبر التدوين والخيال». في الخارج، وجدت صاحبة « التشهي» الحفاوة التي تستحقها على صعيد الحياة الشخصية والكتابة الروائية. الترجمات قدّمتها في لغات أخرى، ومنحتها أسفاراً وصداقات، لكن الخوف ظل يحضر كلما احتاجت إلى التواصل مع ماضيها في «جمهورية الخوف»، حيث كان «الترويع عيداً وطنياً»، بحسب تعبيرها.