يخرج العدد الثاني من مجلة «البوابة التاسعة» النصف سنوية (يضمّ نصوصاً بالعربية والإنكليزية) الذي تصدره «سوليدير» في بيروت، ليتابع البحث في الأمكنة بـ«مقالات المدينة وأخبارها». هذه المرّة، يأتي مشغولاً بتيمة «الساحة» كعنوان عريض لغالبية القراءات التي احتواها كتابةً وصوراً. «الساحة» هنا تأخذ المعنى الراهن باعتبارها ذلك الفضاء «الميدان» الذي احتوى الناس إبان «الربيع العربي» الذي اجتاح أكثر من قطر بهدف إحداث تغيير في بنية كيانات حاكمة هرِمت وهي تعتلي السلطة، فصار أمر تحريكها أو إزاحتها واقعاً في مرتبة الحتمي. كما أنّ «الساحة» بحسب رئيس تحرير «البوابة» فادي طفيلي هي «المكان الطبيعي والأصيل الذي ينبغي التوجّه إليه بغية تنفيذ هذه المهمّة. مهمّة تحريك الراكد والمتيبّس وهزّه، أو دفعه وقذفه وتبديل حالته اليابسة الحجريّة». لهذه الساحة أشكالها وصورها المتفاوتة. تظهر عارضة نفسها بهياكل متينة متعددة بحسب الفضاء الثقافي والمعماري والاجتماعي الذي يحتويها. التونسيون احتلّوا الأماكن العامة وقاموا بتحويلها إلى ما يشبه لوحة إعلانات ضخمة كتبوا عليها ـــ عن طريق الفعل ـــ مطالبهم التي خرجوا خلفها ومن أجلها.
حدث هذا للمرة الأولى بعدما تكاثروا ومارسوا حياتهم في بيئة صامتة ومحيط مخابراتي ضاغط محروس بالأعين المُدرّبة اللاقطة وآليات المراقبة الاحترافية القادرة على كبت أي رغبات تنوي كسر إطار اللوحة العامة ويمكن تصنيفها «في خانة الجريمة والأفعال المنافية للعقل، هذا إن لم تكن خارج نطاق تخيّل حدوثها أصلاً» بحسب لاريسا تشومياك التي كتبت «مشاهد من السلطة: تجليّات الاعتراض في تونس بن علي». يمكن الملاحظة هنا أنّ عملية الخروج عن النطاق التقليدي التونسي جاءت عبر تدرّج في كسر المواطن تلك الرمزية التي كانت تحملها الأماكن العامة بوصفها شكلاً من أشكال السيطرة التي فرضتها الديكتاتورية على المجال العام، وهو ما حوّل ذلك المجال إلى قوة مسيطرة على الفرد. تدرُّج بدأ من خلال اختراع السخرية والنكتة المفكِّكة لتلك الساحات العامة وتالياً عبر اعتزالها، وعدم الذهاب إليها وتركها وحيدة أمام تلك السيطرة المفروضة عليها من قبل الديكتاتورية، وانتهاءً بالنزول فجأة إلى الشارع والأماكن العامة وتحويل الكبت العام المتراكم عبر سنوات إلى أفعال ثورية على الأرض على نحو لم يكن متوقعاً أبداً. وهو بمعنى ما يشير إلى تحوّل تلك الميادين العامة إلى وعاء تمكّن من ضمّ ذلك الصمت الجمعي وقد صار طليقاً وقادراً على الحركة العلنية وممتلكاً خطوات واثقة ذهبت إلى التغيير. لكن بعيداً عن فضاءات «الربيع العربي»، تبدو الساحة أيضاً كسارد لأشكال شتّى من الحياة التي مرت عليها على امتداد الزمن وتراكمات قد تجعل الناس الحاليين في حالة من الحيرة والالتباس حول مصدر الاسم الذي تحمله هذه الساحة، أو تلك، ومنبته وجذره الأول. ساحة الكولا في بيروت مثلاً، أخذت اسمها من معمل الكوكا كولا الذي كان هناك منذ زمن بعيد واختفى ليتحول إلى ساحات أخرى. هكذا تبدو تلك الساحة التي يقرأها طارق أبي سمرا، مشيراً إلى أنّ «الكولا» لم تعد حاملة لإشارة ما تدلّ صراحة على كونها «ساحة عامّة»، إذ تبدو واقعة تحت أثقال متراكمة تركتها خالية من تلك الفراغات الكبيرة التي تميّز الساحات بحسب التقاليد المعمارية المتعارف عليها. وعلى السيرة نفسها المؤدية إلى ساحات أخرى، كتب الروائي السوري خالد خليفة عن ساحة ميدان التحرير في القاهرة بعيون سورية ترقب فيها أملاً محتملاً. في حين ذهب الروائي الجزائري بشير مفتي إلى قراءة ساحة الشهداء الجزائرية «حيث لا شيء يلخّص تاريخ العاصمة الجزائريّة ويعبّر عن روحها أكثر من ساحة شهدائها». وكتب اللبناني وسام سعادة عن «مكان الزمن الدائري» ماراً على الفراغات التي تفعلها الحركة في تغيير دفة الوقت والاتجاهات. وعن «ساحة قصر بوربون»، كتب البرتغالي ماريو سابينو واصفاً حالته متروكاً مع تلك الساحة التي يتآكل جمالها الحجريّ باستمرار «تحت عجلات السيّارات التي تتحرّك حولها».

portal9journal.org