باريس - على مقربة من «متحف حضارات أوروبا ودول البحر المتوسط» MUCEM في مرسيليا (الأخبار 22/7/2013)، تقع «فيلا المتوسط». ضمن فعاليات «مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2013»، جاء هذا المشروع بمبادرة من منطقة بروفانس ــ ألب ـــ كوت دازور من خلال مشروع التطوير الاقتصادي الضخم الذي شمل ترميم قلعة سان جان وإنشاء MUCEM و«فيلا المتوسط» بكلفة قدّرت بملايين الدولارات. الفيلا عبارة عن بناء ضخم يضمّ طبقات عالية وأرضية وأخرى تحت الماء تهدف إلى تعزيز التعاون بين ضفتي المتوسط من خلال توعية المواطنين حيال قضايا هذه المنطقة بين اليوم والغد.
تفتح الفيلا أبوابها أمام محبّي المعرفة من كلّ حدب وصوب، لكنها تفرض معايير صارمة في اختيار المحاضرين والمتحدثين فيها. بين متحف «كلاسيكي» ومركز ثقافي، يقدّم هذا الفضاء منصةً عالمية لتبادل الأفكار من خلال ندوات ولقاءات تقام على هامش الفعاليات الفنية. انطلاقاً من هنا، أصدرت الفيلا مجلة خاصة ضمّت نصوصاً غير منشورة قبلاً لكتّاب أمثال نجوى بركات، وفاسيليس أليكساكيس وإدغار موران، ودانيال روندو، إضافة إلى المخرجين اللذين تعرض أعمالهما في الفيلا أي برونو ألمير وريجيس سودير.
تعد الفيلا بأن تولي شباب المتوسط اهتماماً خاصاً، والدليل هو تجهيز ريجيس سودير «2031 في المتوسط، مستقبلنا». في هذا العمل، عبر سودير إلى الضفة الشرقية من المتوسط (بيروت، تونس، إزمير) ثمّ مرسيليا، وقضى أسبوعاً في كلّ عاصمة برفقة شبّان تتراوح أعمارهم بين 15 و17 سنة. قرر أن يمنحهم الحقّ في الكلام لأنهم هم مستقبل حوض المتوسط. يعرّف سودير عمله مع الشبّان في مرسيليا من خلال فيلمه الوثائقي «نحن، أميرة كليف» الذي هو عبارة عن مقاومة ثقافية في وجه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي سعى إلى إلغاء رواية «أميرة كليف» التي تعود إلى القرن السابع عشر من المنهاج التعليمي، بحجة أن الأوساط الشعبية عاجزة عن فهمها! في هذا الشريط، نرى كيف أن شبّان الأحياء الفقيرة فهموا وتفاعلوا مع الاضطرابات الغرامية في هذه الرواية الكلاسيكية الشهيرة في الأدب الفرنسي، وعبّروا عن ذلك من خلال تغيير وضعهم العاطفي على موقع فايسبوك من «مرتبط بعلاقة» إلى «الأمر معقّد». ويستمرّ عرض هذا العمل حتى نهاية شهر أيلول (سبتمبر) في الطبقة العلوية من الفيلا المطلّة على البحر عبر نافذة زجاجية رائعة.
من خلال لقاءاته مع الشبّان (من بينهم سكان مخيم صبرا في بيروت)، بحث سودير في «2031 في المتوسط، مستقبلنا»، عن البساطة، تلك «الأداة المناسبة أكثر من أجل تصوير التعقيد». تحدث الشبّان عن «متوسطهم» من خلال تمارين تعبيرية حرّة مارسوها في مواقع تاريخية: بيبلوس، قرطاج، أغورا في إزمير، فيما تمرّ على الشاشة مواقع تتمتع برمزية خاصة مثل برج المرّ في بيروت الشاهد على الحرب الأهلية المشؤومة. يضم التجهيز أربعة أفلام (تبلغ مدّة كل واحد 10 دقائق) تطرح مسألة الهوية، والبيئة والحكم مع الوجود الكليّ للبحر والزرقة وأصوات الأمواج. «هنا، عندنا!» عبارة يصرخ بها أحد سكان العشوائيات في مرسيليا، فيما كتب تونسي «جدار أبيض، شعب أبكم» أو «الشعب يريد» غداة ثورة قلبت بلاده، فيما يقول فلسطيني من مخيم صبرا «أريد العودة إلى بلادي». من خلال اعتماد البساطة، ينجح سودير في نقل قلق الشباب في العشوائيات الفقيرة الملوثة التي تقع على البحر، لكنّها تدير له ظهرها، كما تديره للسفر والاستهلاك. في سياق مختلف، يذهب تجهيز «أبعد من الأفق» لمخرج الأفلام الوثائقية برونو أولمير (أهلاً أوروبا) إلى استكشاف موضوع انتقال السلع والبشر في المتوسط. على جدار مرتفع، تترامى كلمات متصلة بالبحر، بالسفر، بالجسر، بالمنفى. ثمّ ندخل قسماً يذكّرنا بأجواء أسواق تركيا. وعلى شاشة في صالة صغيرة أخرى، يمكننا أن نشاهد وثائقياً خيالياً بعنوان «المهاجرون غير الشرعيين» حيث الشخصيات مهاجرون اختبروا البؤس ووصلوا سراً إلى شواطئ أوروبا فأنقذهم الصليب الأحمر. نخرج من هذا القسم لندخل آخر على شكل مركب. ها نحن على متن سفينة فخمة تصدح فيها الضحكات الفارغة، حيث الرقص والماركات الغالية فيتجلّى الاستهلاك في تظهير واضح لغياب المساواة بين ضفتي المتوسط، الأمر الذي يندد به برونو ألمير. هكذا، نخرج من الفيلا يتنازعنا إحساسان: إرادة الفنانين المشاركين على كسر الحواجز السياسية والتنديد باللامساواة والظلم بين ضفتي المتوسط، ومن الجهة الأخرى سياسيون ينفقون ملايين من اليورو في هذا المشروع الثقافي ذي الغايات السياسية. أمام هذا الواقع، لا نملك سوى التساؤل: في وجه السياسة، إلى أي مدى تقدر الثقافة على التوغّل عميقاً وبعيداً في طرح الأسئلة؟