في زحمة الشعر المكتوب بذكاء (قد) يصل إلى حدود الافتعال، والمنظّف من أي زيادة لغوية أو عاطفية، والطامح إلى إبهار القارئ أكثر من كسب صداقته العادية، يدعونا فوزي يمّين في مجموعته الشعرية الجديدة «تمارين على تبديد الوقت» (منشورات «اللقاء الثقافي»/ زغرتا) إلى شعر يتجول في موضوعات ومشهديات وأفكار لا تزال تسمح بالاسترسال والعواطف واستخراج الصور والاستعارات من الكلام العادي وغير المصقول.منذ بداياته، لم يأبه الشاعر اللبناني لاشتراطات الشعر، ولم يكن في نيته أن يشبه الشعراء الذين يلهثون وراء هذه الاشتراطات. هناك سعيٌ إلى جعل الشعر مشابهاً للمواد الأولية التي يتألف منها مزاج الشاعر، ومحاولةٌ لجرجرة الحياة كما هي إلى فضاء الكتابة. إنها «حياةٌ بلا فلتر»، بحسب عنوان مجموعة سابقة له. حياةٌ مخلوطة بأحاسيس شعثاء وأفكار غير مقلَّمة، ومكتوبة بنبرة لا تتخلى عن الغضب والخشونة والسخرية والتلقائية، ولكن ذلك لا يُخفي الآلام والخيبات التي ترشح منها، بينما صاحب النبرة لا يكترث إن طالت القصيدة أو قصرت، ما دام يحاول المطابقة بين الكتابة وطريقته في العيش والتنفس والتدخين.

الشخصي حاضرٌ دوماً، ولكن بطريقة تُمتدح فيها الفردية والعزلة. الشاعر الذي خاطب العالم يوماً: «توقفوا .. أريد أن أنزل» (وهو عنوان مجموعة أخرى له)، لا يزال يمارس هوايته في شتم العالم والسخرية من الجموع: «يجري العالم كما يريد/ أجري أنا كما أريد/ مدفوعاً بخيبة أمل طويلة/ ملتفّة حول عنقي/ كشالٍ أثنيه إلى الوراء كلما مشيت». هناك مجازفة بالشعر، وسعيٌ إلى نجاته من هذه المجازفات أيضاً. والنتيجة أن هذا الشعر يصلنا محتفظاً بسخونته الأولى ودفقته العفوية. في الحب، يمكن أن نقرأ مقطعاً طازجاً مثل «لم أعدْ أستطيع/ انتهى التهريج/ انتهى حبّنا الجميل/ الخائفُ من ظله/ الواقفُ خلف إصبعه/ ها أنا/ كل لحظة/ أغرزُهُ كمسمارٍ تحت تاسع أرض/ ثم أقفُ فوقه بنعلي السميك/ وأظلّ أبصق عليه حتى يجفّ ريقي في فمي». عن الأمومة، نقرأ: «حريٌّ بأمي أن تفكّ أسر الحنان وتطلقه/ كيما يذهب إلى بيته/ ويرتمي على كنبةٍ وثيرة ويرتاح». أما الشاعر، فيطيبُ له أن يقول عن نفسه: «أنا من جبلٍ عنيد/ لكني أحلم بمدينة ساحلية شبّاكها البحر/ هكذا أدخّن وأطفئ سيجارتي في الماء»، وأجمل رغباته «أن أسكرَ ليلاً/ في غرفة ضيقة غير مدهونة/ مع رجالٍ متّسخين يثيرون القرف والاشمئزاز/ لكن عندهم قضايا نظيفة تشعّ كأيقونة على جدران اليأس»، بينما يقوده المزاج المتفلّت نفسه ليصرخ: «أين النساءُ اللواتي يفتحْنَ شهواتهنّ ويُغلقنها كمعاطفَ في البرد/ يُطلقن صيحاتهن الطائشة البرّاقة كعين البومة/ ويتقلّبن بتأوهاتٍ حامياتٍ تطفرُ من تحت الباب/ وتستقرّ على العتبات/ كقطط مبتلّة الفروات؟». ثمة مزاج ماغوطي وروح زورباوية ينبعثان من هذه النصوص التي يحتسي فيها الشاعر حياته بجرعات كبيرة، حيث بإمكانه أن يقول: «فإذا رآني أحدٌ حزيناً/ ذلك لأن سعادتي تهبطُ الوادي ولا تحبُّ رؤوس الجبال»، وأن يتساءل فجأة: «يا دمعةً تحفرُ طويلاً على الخدّ/ أليس لديكِ شغلٌ آخر؟»، وأن يلوِّح لنا مجدداً: «ذاهبٌ أنا/ إلى حيث ذاهبٌ دخان سيجارتي التي أُشعلها الآن/ حاولوا اللحاقَ بي!».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | hbinhamza@