رغم أنّ «أبحاث في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر» (طبعة خاصة ـــــــ 2013) عبارة عن مجموعة دراسات وضعها المؤرخ اللبناني عصام خليفة في مناسبات مختلفة، إلا أنّ أهميته تكمن في الإضاءات التاريخية على أحداث وشخصيات تركت بصمة في تاريخ لبنان الذي يُثير بدوره الكثير من الإشكاليات لدى المؤرخين اللبنانيين.
يعاني اللبنانيون اليوم، من أزمات على مستويين: الأول يتعلق بالهوية الوطنية؛ والثاني بغياب رجالات واعية وقادرة على تجاوز المرض الطائفي والانتقال بلبنان من دولة الطوائف، إلى الدولة الحديثة الحاضنة للتعدد على أسس المواطنَة والتفاعل الثقافي والحضاري بين الجماعات. يعبر الكاتب بلغته الرشيقة والتوثيقية من تاريخ إلى تاريخ، مسلطاً الأضواء على قادة لبنانيين كبار. يتناول الجغرافيا الإدارية والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي من خلال التطرق إلى نشأة الحركة النقابية، والدور المهم الذي أدّاه مرفأ لبنان في الاقتصاد اللبناني، وظروف صعود الطائفة الشيعية التي تؤدي دوراً مهماً في الحياة اللبنانية المعاصرة. استند في ذلك إلى مصادر جديدة، ومعطيات لم يجرِ التطرق إليها قبلاً، مستخدماً النقد والتحليل في نهجه.
في المقدمة، يشير إلى «الزلزال الذي تشهده المنطقة»، متمنياً أن يساعد كتابه على ترسيخ الذاكرة التاريخية، وإبعادنا عن «مآسي الانقسام والعنف». خط التصدع الداخلي _ الإقليمي الذي هجس به مؤرخنا، تلميحاً، أدخل لبنان في فم الذئب، بفعل عوامل داخلية وخارجية كان لها تأثير خطر في الانشقاق العمودي الراهن، وفي مآسي اللبنانيين ومقاتلهم وانتماءاتهم العابرة للحدود. يستهل خليفة أبحاثه بالتقسيمات الإدارية في لبنان زمن السلطنة العثمانية (القرن السادس عشر) وكيفية توزع المناطق اللبنانية الشمالية والشرقية والوسطى والجنوبية. تحت عنوان «البطريرك يوسف التيان رجل العلم والإصلاح والأصالة»، يؤرخ صاحب «أعلام الثقافة في لبنان» لأهم الإنجازات الإصلاحية والتربوية التي قام بها البطريرك الماروني السادس والستون. يضعنا في السياق التاريخي الذي عاصره التيان، ثم يحدثنا عمّا حققه في مجال النهضة التربوية والإصلاح الديني والاجتماعي. علماً بأنّ التيان _ كما يشير الباحث _ أطلق مدرسة «عين ورقة» التي كانت تعد أول جامعة في الشرق وأساس النهضة العلمية. يتحدث خليفة في دراسة مهمة عن الحركة النقابية لعمال الطباعة الذين كانوا في طليعة الصراع دفاعاً عن الحريات العامة بين 1912 و 1946، ويعرض لأهم الثوابت التي ميزت الحركة النقابية اللبنانية كدعم النظام الديموقراطي اللبناني، ورفض الطائفية، والإصرار على النضال النقابي، وتأكيد استقلال لبنان. ويرى الكاتب أنّ عمّال الطباعة شكلوا طليعة العمل النقابي نتيجة الوعي العمالي والوطني المبكر، إذ خاضوا نضالاً لترسيخ الحريات النقابية وفرض الاعتراف بحق العمال في التنظيم النقابي وإقرار قانون جديد للعمل عام 1946.
يقدم المؤلف بحثاً وافياً عن شكري غانم، معتمداً على وثائق جديدة كأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. يحيلنا على الظروف التاريخية الممهدة لمؤتمر باريس العربي عام 1913 الذي كان لغانم دور فيه، كرئيس للجنة اللبنانية وعضو في اللجنة التحضيرية. يلاحظ المؤرخ أنّ الهم المحوري الذي كان يستحوذ على نشاط غانم يتمثل في أمرين: تحقيق الوحدة السورية، وتحقيق الوصاية الفرنسية على كامل سوريا، لكن التحولات السياسية التي حصلت دفعته باتجاه الانكفاء إلى مشروع لبنان الكبير (1920). يرى خليفة أن غانم «في فكره العلماني والليبرالي كان استمراراً لرعيل اللبنانيين الكبار الذين حاولوا أن يردوا على تحديات الحداثة، ورغم تبعيته للسياسات الفرنسية في مرحلة أساسية من حياته، إلاّ أنه استشرف الخطر الصهيوني على المنطقة».
ينتقل خليفة إلى شخصية لبنانية أخرى هي يوسف السودا. ست ثوابت رسمت معالم مشروع السودا: قيام الدولة اللبنانية، النضال من أجل استقلال لبنان على قاعدة الميثاق الوطني بين المسيحيين والمسلمين، التي تمخض عنها «الميثاق الوطني اللبناني» (1938)، الرهان على طاقات الشباب، العدالة الاجتماعية، العلاقات اللبنانية السورية على أساس تحالف المصالح المشتركة في إطار احترام كامل لسيادة واستقلال الدولتين، وأخيراً دعم الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني.
في الورقة البحثية ما قبل الأخيرة، يتناول خليفة ظروف صعود الطائفة الشيعية في لبنان، بدءاً من القرن التاسع ميلادي والاضطهاد الذي تعرّضت له جراء حملات المماليك الثلاث على جبل كسروان (1291 _ 1300_ 1305)، مروراً بالفترة العثمانية، وصولاً الى الحقبة الشهابية، وما تلاها من بروز حركة الإمام موسى الصدر وصعود «حزب الله». يورد الكاتب نص مذكرة قدمتها بعض القرى الجنوبية إلى «مؤتمر الصلح» تدعو فيه للانضمام إلى لبنان الكبير. وكي يدحض الشك باليقين حول مدى صحة هذه الوثيقة الموجودة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، يعتمد على تقرير عن موقف وجهاء منطقة صور أمام لجنة كينغ _ كراين، مشيراً إلى تأييد الأكثرية الساحقة لهذا الخيار. يختتم خليفة كتابه بـ«مرفأ بيروت 1940_1945». درس تطوره في المرحلة العثمانية والانتداب، مستنداً إلى أرقام وجداول، ووضع ملحقاً احتوى على خرائط وتقارير ورسوم بيانية حددت مسار انتعاش وتراجع المرفأ في تلك الفترة.