«ما بعد الصورة» هو الاسم الذي أطلقه المصور زياد عنتر بالتعاون مع الأديب يحيى امقاسم على معرض الصور والكتابات الذي افتُتح مطلع الشهر الجاري في بيروت. ولو ان تسمية هذا المعرض اوكلت اليَ لسميته، بعد حيرة مطوّلة، «ما قبل النور» وذلك على قدر ما «شعرت» به من فهم للصور المعروضة بغموض فنيّ جذاب يستعصي على امكاناتي الفنية ان تجتاز بي مرحلة «الشعور» الى مرحلة الفهم، او مرحلة ما... ولكنه، في الوقت نفسه، يأتي في سياق ما هو مألوف لدي من عمل الأستاذ الدكتور كمال الصليبي، ولكن كانت قد جرت الترجمة! وبما ان هذا العمل الفني قائم بشكل من الاشكال على أطروحة كمال الصليبي حول جغرافيا التوراة فلا بد من التنويه بهذه الأطروحة من باب انتهاز فرصة ولوجها عالم الفن، لا من باب توضيح «الصورة» التي التقطتها كاميرا زياد «الضائعة العدسة» لتبقيها مبهمة وسحيقة في بعدها، ولكنها لا تخلو من نور. وقد سبق لهذه الأطروحة ان دخلت عالم الخيال على يد الكاتب الأميركي ستيف بيري في روايته الشهيرة The Alexendria Link، التي حصلت على لقب «الأكثر رواجا» بحسب «النيويورك تايمز».
لم تكن أطروحة الصليبي يوماً خيالا او رواية فنية لا ترتبط بالواقع، بل هي بحث شديد الواقعية أوصل صاحبه، المؤرخ المعروف برصانته، الى اكتشافٍ قلب طاولة التاريخ رأسا على عقب، وأسس مدرسة نقدية جديدة في دراسة التوراة. وليس هذا الموضوع، برغم خصوصيته، حكراً على أهل الاختصاص او اصحاب الشأن التاريخي بما للتوراة من دور تأسيسي، ليس بالنسبة إلى الأديان التي سميت سماوية او ابراهيمية فقط وانما أيضاً، لتراث عالمي طويل لا تزال انعكاساته حية اليوم في عالم الغرب المتشظي التأثير. رسم الصليبي خارطة جديدة لأرض التوراة الأولى بعيداً عن فلسطين في جنوب غرب شبه جزيرة العرب، محاولا بجدارة ان يثبت ان أحداث التوراة لم تكن في الواقع على أرض مصر وفلسطين، اللتين نعرفهما اليوم، كما هو سائد ومن المسلمات، وانما جنوبا في منطقة عسير العربية. حيَّرت هذه الأطروحة العديد من علماء التاريخ والتوراة، وقد أغضبت كثيرا منهم لشدة الدويّ الذي أحدثته في تحطيم واحدة من أكثر المسلمات «قدسية» في العالم، ولكن الصليبي لم يسعَ الى تحدي المقدس وليس عمله كذلك في الواقع؛ كل ما في الأمر ان خريطة الأماكن والمواقع المذكورة بوضوح في التوراة، التي لم يستطع علماء التوراة تحديدها على أرض فلسطين وجدها هو في عسير مطابقة لاحداثيات التوراة، وإضافة الى البحث الجغرافي عن أسماء الأماكن وتاريخانية تلك الأسماء، اعتمد الصليبي في قراءته للتوراة على قراءة النص الأصلي الخالي من التحريك الصوتي الذي أضيف اليه بعد أكثر من الف عام على غياب اللغة العبرية من التداول.
ومهما يكن من أمر تلك الأطروحة التي لاقت رواجاً كبيراً في أوساط المثقفين كما لاقت اعتراضات واحتجاجات عديدة، فإنها لا تزال شديدة الجاذبية والتأثير الى حد اننا نشاهد أثرها اليوم في «ما بعد الصورة» وقد جمعت بين الفنان الصيداوي زياد عنتر والأديب العسيري يحيى امقاسم الذي يحمل اسمه نكهة عسيرية مميزة عن اللهجات العربية الأخرى، وذلك باقلاب حرف «اللام» في «ال التعريف» «ميما»؛ فلو اننا نلفظ اسمه بأي لهجة عربية اخرى لقلنا: «يحيى القاسم»، ولكن كان لا بد لهذا الاسم ان يكون عسيريا ولا بد لصاحب هذا الاسم ان يلبس التاج العسيري في بيروت، ولا بد له ان يكتب ادبا عسيريا رائعا ذا لغة متينة، كالذي كتبه في روايته «ساق الغراب». ليقف كل ذلك شاهدا جميلا على ما تركه كمال صليبي من أثر يملأ الدنيا ويشغل الناس.
في بيروت، مدينة كمال صليبي المفضلة، جمع الفنانان بين اللغة والتاريخ والميثولوجيا والصورة. استطاع زياد عنتر ان يخبرنا من خلال صوره التي التقطها بكاميرا ضائعة العدسة ان التاريخ رؤية، والرؤية تعتمد على النور، والنور يرمز الى الحق، والحق تحرّفه الأساطير، فيضيع موطنه الأصلي خلف طيّات عديدة تراكمت على مر الزمن، ولكن النور الذي يسلطه زياد على لوحاته يضفي عليها جمالا وغموضا جاذبا قد يغنينا عن الحقيقة البعيد غورها، وينعم علينا بقبول ما نستطيع رؤيته حتى وان كان مبهما! ولكن لولا النور لما حصل كل ذلك، ولهذا كنت ساسمي هذا العمل «ما قبل النور» لو ان مهمة تسميته أوكلت اليّ!


*أستاذ محاضر في جامعة جورجتاون قطر