كان اسمه هو اسم الحانة التي يديرها أيضاً. «أنا عند هاروت»، أو «نلتقي عند هاروت». هكذا كان يحلو لأحدنا أن يقول. الاثنان ماتا الآن. هاروت والحانة الصغيرة والحميمة المنزوية أسفل فندق شبه مهجور في شارع الحمرا. الفندق والحانة (وهاروت أيضاً) كانوا من زمن الحمرا القديم، حيث اختلطت مناخات الحرب بازدهار الشارع، ثم بأفول أضوائه في بدايات السلم الأهلي، قبل أن ينهض مجدداً بأنماط أخرى من السهر. أنماطٌ زاحمت حانات مثل حانة «هاروت» التي راحت تكتفي باستقبال المقربين من الأصدقاء الذين لا يزال أغلبهم يحتفظ بالصورة القديمة للشارع الشهير ومقاهيه وحاناته.
لم يكن هاروت مجرد بارمان طيب القلب. كنا نلتقيه كصديق قُيّض له (بالمصادفة) أن يسكب لك كأسك كلما فرغ أثناء المسامرات المتنوعة التي كان يفضّل ألا تلوثها السياسة كثيراً، مكتفياً بالحديث عن الفوتبول أو الإصغاء إلى امتداحكَ للسجق الذي يبرع في تحضيره على المشواة الصغيرة القابعة تحت رفوف الزجاجات المصطفة ككتبٍ سعيدة في مكتبة يعلوها الغبار. يذكرك دوماً بأنه كان لاعباً وحكماً لكرة القدم، ويتعفف عن إبداء سعادته بفوز فريقه إذا كان يلعب ضد فريقك المفضّل. الأرمني الذي كنا نشبهه بالرئيس السوفياتي غورباتشييف، كان «يترغل» بالإنكليزية إذا كان أحدنا قد دعا ضيوفاً أجانب شاركوا في أحد مهرجات المدينة، وينبغي أن يحجّوا إلى حانة «هاروت». في تلك الحانة المؤلفة من كنتوار ضيق وكراسٍ قديمة وتلفزيون أقدم، كان هناك شعراء مداومون، وشعراء يمرون لأخذ كأس واحدة قبل أن يكملوا السهر في أمكنة أخرى. كانت أسرارٌ تُفرش ونمائم تتجول مع الكؤوس التي تمتلئ وتفرغ، مع دخان السجائر والأغاني التي يبدلها هاروت بطريقة ارتجالية. لم يكن هاروت شاعراً أو فناناً أو مثقفاً معترفاً به، ولكنه كان خليطاً من كل ذلك، إضافةً إلى عزلة شخصية متمادية، ومواظبة يومية على عملٍ روتيني. حياةٌ ضيقة جلبت له إرهاقاً وأمراضاً بالتقسيط. أصابته جلطة قبل عامين. أُغلقت الحانة وغاب هاروتنا لفترة. احتفل الأصدقاء بعودته، قبل أن تعاوده الآلام، ويُصاب بالشلل. أمضى هاروت أيامه الأخيرة في مأوى فقير، ولفظ أنفاسه بعيداً عن الحانة التي حملت اسمه، والتي لفظت أنفاسها هي الأخرى. لقد فقدت الحمرا أحد جنودها وصانعي مزاجها، ولا عزاء لأصدقائه الشعراء.


يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza