مرسيل خليفة
الى الأمن العام، ارحمنا وحلّ عنّا
الى بشّار مار خليفة
أبحث عن قلبي لأجده معك هذا المساء، لألتقط حبّات الأغنيات في ليل البلد «السعيد»
أتذكر يا ولدي عندما رافقنا القمر على طريق المنفى وكنت تحمل خمس سنين.
طفل في الخامسة يقف على حافة الشارع الطويل يبحث عن بلد في البعيد البعيد.
وبعد سنين تعود لتجد زنزانة مفتوحة لأغنيتك لأنها تمّس بالذات، ذات البلد الإلهيّة كما جاء على لسان الأمن العام اللبناني الطويل.
نعتذر منك يا ولدي وأنت في أولى محاولاتك تصاب بخيبة أمل في بلد يفقد فيه الانسان ذلك «الأمل» بشكل يومي ساحق في غياب العدالة والحرمان من الحريّات والحقوق الأصليّة، وكل ذلك سبب مباشر لكل هذه الانهيارات والانفجارات والانحطاط الحضاري الذي نتدهور فيه منذ سنوات.

يا أبي

أما زلت تذكر أغنية «يوسف» وكيف رافقتني ذات يوم من سنة ١٩٩٩ الى قصر العدل في مدينتنا «بيروت» لحضور جلسة دعوى الحق العام على تحقير الشعائر الدينيّة من خلال الموسيقى والأغنية؟
كان الواقع وما زال يتعرّض لعمليّة انقطاع الوعي وبالطبع إن الأغنية لا تكون مقدسّة الى هذا الحد للادعاء عليها ولكن... هذا هو حَدْ البلد
«وطني دائماً على حق»
لا، عذراً «ليس وطني دائماً على حق»
لم تستطع «يا بلد» أن تفلت من براثن الأمن العام الحريص على «الأمن» والحريّة والأخلاق والدين وما شابه ذلك، فاعتقل الأغنيّة.
ليس لنا وطن يا ولدي وربما من حسن حظنا أنّ وطننا هو وطن الاغنيات والموسيقى والجمال.
ما هذا «البلد» يا «ولد»؟
يقول محمود درويش «ليس المكان الذي ولدت فيه دائماً وطنك».
لم أكن قادراً يا أبي على لجم غضبي من تلك الإهانة من قبل «أمن عام» لا هو بأمن ولا هو بعام.
اذكر من سنين بأن خالي كان مفتشّاً في هذا السلك وكانت وظيفته مراقبة الأفلام والمسلسلات والأسطوانات، وكنت صغيراً أسمعه يردِّد امام جدي «أسعد»: من أنا لأراقب عملاً فنّياً؟ وصدقاً، لم يعمل مقصّه يوماً عملته، ولقد طرد من وظيفته باكراً جداً بسبب حريتّه!
سلام على روح يوسف البسكنتاوي الذي تدرَّب على يد الشاعر الجميل لحّود لحّود القريب من الناس، ولم تكن صورة ذلك الشاعر - المفوّض في الأمن العام صارمة كأغلب موظفي الدولة الكبار الممتلئة بهم ضيعتي. كان رجلاً محبّاً للأدب ويقرض الشعر ويرتكب الحب...

«يا رب

صرلي ميّة سنة، بصوم وبصلّي، ارحمني، غنائي لأجلك، صمتي لأجلك، آمنت، جاهدت، استقبلني، اسمحلي اطلب آخر شي يا رب،
ارحمنا وحلّ عنّا».
بهذه الكلمات البسيطة سنواصل يا ولدي طريق الشوك بحثاً عن بلد تركناه هنا.
جئت البارحة من سفر بعيد لأحضر أمسيتك ومسافر اليوم الى مدينة أخرى بحثاً عن الجمال.
جئت لأبحث معك عن الطفل الذي تركناه هنا في هذا البلد، أعرف بأنك لن تجد مدرستك الأولى وقد ضاع جرس الصباح والنشيد الوطني. لن تفهم ما حدث، كانت حروباً صغيرة وكبيرة.
أتذكر ميشال القفص كيف كان يقضي أيامه على الطريق بين عمشيت وبيروت، لا لشيء الا ليرى أحفاده يكبرون أمامه يتأمل وينتظر العودة الى الضيعة التي كان ممنوعاً علينا زيارتها، وكان يفاخر أمام أصدقائه بمواهبكم، يهدهدكم بأغانٍ شجيّة وبمزامير بدائيّة.
مات ميشال «المتواضع» ولم نودعه، ولم يخجل أحد في بلد لا يتواضع فيه أحد.
يا ولدي، شكراً لأمسيتك الرائعة والجارحة في آن. هنا في بيروت «في الشارع الوطني يا وطني».
أمسيتك كانت اكبر استعراض للأمل والحلم، أمسيتك أبعدت الخيبة في هذا الزمن الوحشيّ وجعلتنا نمسك بحبل نجاة فوق هذه الامواج العاتية في خضّم هذا البحر الوالع.
ما اجمل هذه القوّة التي تشتعل في داخلك وتدفعك الى شهوة الخلاص في هذا الهُيام بالخلق والتجدّد. بين موسيقاك وإحساسك فرح عظيم منذ طهوت في أول السهرة «مادونا» بسحر ايقاعك.
أكنّ لك كل الحب والتقدير ليس فقط لموسيقاك الساحرة وأيضاً لخلخلتك إيمان البلد بكل معتقداته لأن كل ما يعتقده خطأ وكل ما يفعله خطأ.
لن يموت البلد، لن يخطفوه الى الأبد.
والى الأمن العام «اللبناني» نصرخ:
ارحمنا
وحلّ عنّا.
---
انسيرت: أما زلت تذكر أغنية «يوسف» وكيف رافقتني ذات يوم من سنة ١٩٩٩ الى قصر العدل في مدينتنا «بيروت»