«فرات» هو اسم النهر الذي ينبع من جبال أرارات في أرمينيا وطوروس في تركيا، يهبط إلى سوريا فالعراق، ليلتقي بدجلة ويصب في شط العرب. و«فرات» أيضاً هو العنوان الذي اختاره المؤلف وعازف العود الفلسطيني نزار روحانا (1975) لاسطوانته الثانية التي يطلقها يوم الجمعة المقبل. عازف العود الذي لفت أنظارنا عام 2008 بباكورته «سرد»، يعود ويؤكد على هويته الموسيقية التي اختار لها أن تغرف من روح المشرق العربي وطوقه الذي يشاطره الفن والموسيقى والتاريخ. اختيار غير سهل، خصوصاً في عز موضة «الفيوجن» التي كثيراً ما ضاعت فيها روح الموسيقى العربية وآلة العود معاً.
ابن بلدة «عسفيا» المتربعة على الخاصرة الغربية لجبل الكرمل في فلسطين المحتلة، والمأخوذ بالجغرافيا التي يطلقها على قطعه الموسيقية، لم يختر «فرات» عنواناً اعتباطياً لأسطوانته الجديدة. يقول لـ «الأخبار»: «قبل الاحتلال، كان جدي يعمل سائق تاكسي سفريات، ينقل المسافرين من فلسطين إلى بيروت ودمشق وبغداد. جدي عاش الجغرافيا بشكلها الطبيعي. أما نحن، فننظر إليها عبر «الغوغل ماب»». ولهذا يحاول روحانا الوصول إلى المنطقة المحرمة عليه، وينهل منها في ألبومه الجديد؛ مستعيناً بعازف الكونترباص الهنغاري ماتياس تزانداي وعازف الإيقاع اللبناني الفرنسي وسيم حلّال، ليشكلوا ثلاثياً موفقاً تحت اسم «ثلاثي روحانا».
سبع مقطوعات يبتعد فيها عن البهرجة والركاكة وينحاز للنغمة

حصلنا على نسخة من الأسطوانة قبل إطلاقها واستمعنا إليها، لنجد أنها امتداد للأسطوانة التي سبقتها، فهل هذا مقصود؟ يجيب روحانا «نعم وبإصرار». هنا، نستمع إلى سبع مقطوعات فيها لعب بدون فذلكة، بريشة واثقة غير متكلفة، يبتعد فيها عن البهرجة والركاكة وينحاز للنغمة التي يقول إنّها تعبّر عن «هويته وثقافته العربية». العمل الذي سُجِّل في استوديوهات «ميوزك يونيت» في باريس، بتقنية الموسيقى الحية داخل الاستوديو، جاء بدون مؤثرات صوتية تذكر. أحياناً، نسمع أنفاس روحانا وهو يعزف، فيفتتح الفنان أسطوانته بمقطوعة «مدار حجاز» في توزيع يتشارك فيه العود والـ double bass والإيقاع. افتتاحية موفقة ستجعلنا ننحاز إليها كأكثر قطعة لافتة بتوزيعها وجملها اللحنية التي تدور حول مقام الحجاز، تليها مقطوعة «فرات» التي اعتمد فيها الفنان على مقام «البيات» إذ تبدأ بمرافقة تقليدية للإيقاع، قبل أن يكسرها دخول موفق ومفاجئ للكونترباص الذي سيحتل الصدارة في منتصف القطعة ليسلم العود مرة أخرى بتحويلة جديدة تستمر حتى نهاية القطعة. أما في القطعة التي تليها «ميادين»، فيظهر العود والكونترباص بتعارض في النغمات والأصوات (counterpoint) وينسحب فيها الإيقاع ليتدخل بشكل طفيف. أما في «دالية»، فنستمع إلى عزف عود منفرد على مقام نهاوند. سنشعر في بداية القطعة بأنها مجرد تقسيمة، إلا أن الدفق اللحني والانتقال المستمر بين الجواب والقرار، سيشدّان الأذن حتى نهاية القطعة. وكما حضر جميل بيك الطنبوري (1871 - 1916) في ألبومه السابق من خلال «سماعي فرح فزا»، يعود روحانا لاستحضاره مجدداً في «سماعي محير»، لكن بتوزيع مختلف لافت يلعب فيه الكونترباص مع العود تارة بتضارب، وطوراً بتناغم. ينسحب الإيقاع مجدداً بدون أن نفتقده. وفي «صفصاف أبيض» على مقام «حجاز كار»، يرجع روحانا ليبني قطعته من خلال التقسيم الملحَّن. في القطعة الأخيرة «جورجينا بياتي»، يعود الثلاثي إلى الطاقة التي لمسناها في مستهلّ الأسطوانة، إذ نستمع إلى قطعة سريعة يتشارك فيها العود والكونترباص والإيقاع. تارة يصمت العود لـ double bass والعكس، وطوراً يلعبان سوياً، بينما يبقى إيقاع «جورجينا» ـ الرائج في بلاد الرافدين ـ محتداً طوال القطعة. طاقة وقوة القطعة الأولى والأخيرة وما بينهما من مكونات وأنماط، عنصر جعل أسطوانة «فرات» أشبه بشطيرة طازجة عامرة!
ورغم شحّ الجمل الموسيقية الواضحة التي قد تعلق في أذهاننا عند الانتهاء من سماع الألبوم (باستثناءات قليلة) والتقشف الآلاتي، إلا أن المفاجآت العديدة في الألحان التي ظهرت من خلال التحويلات المقامية والإيقاعية، والاعتماد على «تعارض الأصوات» وإصرار المؤلف على المحافظة على طابع الموسيقى العربية رغم اعتماده على «الفيوجن» في التوزيع، إضافة إلى رشاقة عود روحانا وعزفه الأنيق، كلها عناصر جنَّبت الفنان الوقوع في فخ الرتابة أو الثرثرة الموسيقية، وجعلت «فرات» تجربة تستحق الوقوف عندها باهتمام. علماً أنّ شركة «لوبلوب» الهولندية تتولى توزيع الأسطوانة في أوروبا. وفي 19 نيسان (أبريل)، يباشر روحانا جولة ترويجية لعمله، يبدأها من فلسطين (حيفا، القدس، رام الله) مروراً بعمّان ومنتهياً ببعض المدن الأوروبية.
www.nizarrohana.com