عندما كنّا صغاراً في المدرسة، كنا نكتب الدروس والفروض على متن الصفحة ونترك الهوامش لملاحظات الأستاذ حيناً، أو لتدوين الأفكار التي تخطر في بالنا خلال ساعات الدراسة الطويلة حيناً آخر. وعندما كنا نعود إلى دفاترنا، كانت الهوامش هي التي تحظى بانتباهنا. عبارةٌ هنا تعيدنا إلى موقف، ورسمٌ هناك يذكّرنا بصديق. كانت مجرد هوامش. لا نحفظها، ولا تساهم في ترفيعنا من صفّ إلى آخر، لكنها ساهمت بطريقة أو بأخرى في صناعة شخصيتنا وبلورة وعينا.
هذا الدور الإيجابي للهامش لا ندركه صغاراً. قد نتذكّره عندما نكبر. عندما لا يعود الهامش مجرد مساحة صغيرة على ورقة بيضاء، بل يصبح أناساً وهويات وقضايا وفنوناً... يكونون في مكان بعيد عن السائد. منهم من يختار ذلك بملء إرادته، ومنهم من يدفعه مجتمعه إلى هذا الخيار. وفي الحالتين، يحاول «المهمّشون» أن يطلقوا العنان لأنفسهم ولطاقاتهم.
كيف يعبّر هؤلاء عن التهميش الذي يعيشونه؟ متى ينطلقون ومتى ينكفئون؟ وهل من تجارب مضيئة في عالم المهمّشين؟ هذا ما حاول كتاب «باحثات» أن يضيء عليه في عدده السنوي الذي يحمل الرقم 15. تحت عنوان «التهميش في المجتمعات العربية: كبحاً وإطلاقاً»، يخوض الكتاب «تحدّي استقصاء الهامش الذي نقع ضمنه» من منطلق إيجابي كما يرد في المقدمة.
ينطلق الكتاب الذي نسّقته الباحثتان نهوند القادري عيسى ونجلا حمادة من واقع فرضته العولمة على عصرنا الحالي، إذ «نلاحظ فيه تراكماً هائلاً شبه متجانس لنمط من المعرفة، وقصوراً في التنوّع والجدّة المعبرين عن الوجه الحيوي الحقيقي لكثير من جوانب المعرفة». ولذلك، كان الهدف «إلقاء الضوء على رقعه التهميش في المجتمعات العربية وتبيان مداها وأساليب التعاطي معها».
وقد نجح الكتاب في هذا التحدّي من خلال الإضاءة على مواضيع قلّما يجدها القارئ في متناول يده. جاء اختيار الكتّاب والباحثين لمواضيعهم، موفّقاً بنسبة كبيرة، وأتاح لنا التعرّف إلى فئات مهمَّشة من جهة، وممارسات مهمِّشة من جهة أخرى. شملت مواضيع الكتاب، الذي يتألف من 550 صفحة من الحجم الوسط، السياسة والقانون والإعلام والأدب والاجتماع وعلم النفس، بحيث يشعر القارئ بأنه يخرج من عالم ويدخل في آخر مختلف تماماً: من القوانين المهمّشة للمواطنين، مروراً بتجارب النساء الصوفيات، والديانة البهائية، وموقع النساء العربيات في الفضاء العام بعد مشاركتهنّ في «الثورات العربية» وتجربة فرقة «الطفّار» للراب، والأدب العربي من وجهة نظر صينية، وصولاً إلى خطاب الجنس في المجتمع التونسي، ومسرح المضطهدين، والتعامل العلمي مع النفس البشرية، وغيرها من المواضيع التي لا تقلّ أهمية.
المتعة ترافق القارئ في أي موضوع قد يختار قراءته من المواضيع الاثنين والعشرين التي يضمّها الكتاب، إلا أن الدراسة التي قد تكون الأكثر تأثيراً في نفس القارئ هي التي حملت عنوان «حياتية الموت والميت في المجتمع الفلسطيني: أن تموت في القدس» (نادرة شلهوب وسهاد الناشف) لما تتضمّنه من شهادات تكشف كيف يحرّر الموت الفلسطينيين من أدوات القمع الاسرائيلية، عندما تقوم العائلة بكلّ ما في وسعها لتحقيق رغبات الميّت. ومن الشهادات نقرأ لزوجة فلسطيني توفي في المعتقل: «حين كان سجيناً، كان قلقاً من الحرارة التي ستكون في البيت، وأخبرته أننا نخطط لشراء مكيّف صغير، وأنه سيستمتع بالاسترخاء في الغرفة. لذا، حين مات غسلناه وكفّناه بالكفن الأبيض. لقد رأيت وجهه، كان سعيداً لأنه ليس في الكيس الأسود. أخبرت الجميع برغبته في غرفة مع تكييف، وبالفعل أحضرناه وجعلناه يستمتع ببرودة الغرفة واستمتعنا معه. لقد كان سعيداً، حتى إنني أحسست بيده تشدّ يدي ليعبّر لي عن شكره. لقد أتى كل الأقرباء والأصدقاء لرؤيته في هذه الغرفة كأنه كان حيّاً وحرّاً». وتخلص الباحثتان إلى القول إنّ «حدث الموت يرسّخ حق العودة للفلسطينيين. من خلاله، يجري سرد التاريخ وكتابته من جديد. يجري من خلاله لمّ الشتات ويكثّف استمرارية الكيان الفلسطيني لا على الأرض فحسب، بل في باطن زمان وفضاء الأرض الفلسطينية أيضاً».
ونتعرّف في الكتاب إلى قرّة العين، السيدة العراقية التي دخلت في الدعوة «البابية» منتصف القرن التاسع عشر، المؤسِّسة للبهائية (هالة فؤاد)، وشُغل بها المجتمع العراقي، إذ «أسفرت عن وجهها وارتقت المنبر وخطبت وجادلت، فكان ذلك أول حدث من نوعه في تاريخ العراق، وربما في تاريخ الشرق كلّه طيلة قرون عديدة».
ما قامت به قرّة العين في ذلك الزمن جعل أستاذ التاريخ في جامعة بغداد الدكتور علي الوردي يقول إنّها «ظهرت في غير زمانها أو سبقته بمئة سنة على أقلّ تقدير». ومن يدري ما كانت ستقوم به اليوم لو كانت بيننا. ففي زمن «الثورات العربية»، ملأت النساء الساحات وكنّ جنباً إلى جنب الرجل في رفع المطالب السياسية، لكن على الرغم من هذا الحضور، كان لافتاً عدم نجاح النساء في إخراج قضاياهنّ من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام. تلاحظ نهوند القادري أنّ «النساء اللواتي شاركن في الحراك العربي، تحرّكن من دون أن يطرحن على أنفسهن أسئلة عن دوافعهن الخاصة، وعن أفق تحركهن كنساء، ومن دون أن يعملن على أشكلة قضاياهن، التي كانت مصنفة خاصة». وفي مواكبة لهذا البحث من مصر، طرحت بيسان طي على مجموعة من الناشطات سؤالاً عما تغيّر بالنسبة إليهن كنساء في الفضاء العام، وكانت إجاباتهن بأنّهن كن مشغولات بأسئلة بحت ذكورية عن شكل الحكم وموقع الجماعات.
ومن الشهداء والأقليات والنساء، نصل إلى علم النفس، مع قراءة نقدية للطريقة التي يجري بها التعامل العلمي مع الألم النفسي، من خلال تهميش التحليل النفسي للذات البشرية. تسأل أنيسة الأمين «إلى ماذا تؤول نفسياتنا إذا لم تعرف الميكروبات؟ إلى ماذا تؤول نفسياتنا إذا لم تنتج حصتها من الصدّ والإعراض والقلق؟ ألسنا هنا نستبدل الممنوعات الأخلاقية السابقة بممنوعات وتحوطات تجعلنا أسرى الخوف من كل ما نلمس؟ ألا يجدر بنا أن نقوم بمديح للعارض النفسي مع كل إزعاجه، لأنه يضعنا أمام مسؤولياتنا إزاء أنفسنا؟ فاضطلاع الذات بما يسمها هو بحد ذاته ثورة».
قد لا تكفي هذه النماذج لتقديم فكرة وافية عمّا يحويه الكتاب، لكنها محاولة للإضاءة عليه كإنجاز «هامشي» بالمعنى الإيجابي، يصرّ تجمّع باحثات على الإطلالة به علينا في موعد سنوي بتنا ننتظره عاماً بعد عام.