من المؤكد أنّ السينمائي الأميركي المقيم في لندن جوشوا أوبنهايمر (1974) رسم ابتسامة واسعة على وجهه عندما سجّل كل من معلّمي الفيلم الوثائقي الألماني فيرنر هيرزوغ والأميركي إيرول موريس اسميهما كمنتجين تنفيذيين على فيلمه «فعل القتل» (2012) بعد مشاهدته في عرض خاص. الأول عرف بمشاهده الغرائبية التي تقطع الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، والثاني بأفلامه السياسية. فيلم أوبنهايمر يجمع الصفتين، رغم أنّ كل ما نراه هو واقع بالفعل. في ليلة الثلاثين من أيلول (سبتمبر) عام 1965، اغتالت مجموعة تطلق على نفسها اسم «حركة 30 سبتمبر» ستّة جنرالات من الجيش الإندونيسي، وأعلنت أنّها قد وضعت الرئيس أحمد سوكارنو (1901 ـــ 1970) تحت حمايتها. لم يصمد الانقلاب طويلاً. في اليوم نفسه، بعدما أعلنت المجموعة سيطرتها على الإعلام، فشلت محاولة الانقلاب. وبحلول الثاني من تشرين الأول (أكتوبر)، نجح الجنرال سوهارتو (1921ـــ 2008) مدعوماً من الولايات المتحدة والــ«سي. آي. ايه» والاستخبارات البريطانية، في الإمساك بزمام الأمور في البلاد، وأعلن الحكم العسكري وفشل المحاولة الانقلابية التي اتهم بها العدو الأول، الحزب الشيوعي الإندونيسي.
إثر ذلك، اجتاحت البلاد حملة بروباغاندا عسكرية ضد الحزب الشيوعي والشيوعية، رغم انكار الحزب ضلوعه في تلك المؤامرة، واعتُقلت قيادات عسكرية اتهمت بالتعاطف مع الحزب، وانطلقت حملة اعتقالات طاولت قيادات بارزة في الحزب، مع تنفيذ إعدامات سريعة. من جهة أخرى، أقام الجيش تظاهرات مناهضة للشيوعية، قبل أن توظَّف ميليشيات مسلحة وعصابات للقيام بحملة اغتيالات في صفوف الحزب ومناصريه، وكل من يتهم بأنّه شيوعي أو متعاطف مع الشيوعية. وبحسب بعض التقديرات الرسمية، راوح عدد القتلى يومها بين 500 ألف ومليون قتيل في أقل من سنة، ووصل الرقم في بعض التقديرات الأخرى إلى ثلاثة ملايين قتيل من شيوعيين ونقابيين ومثقفين ومزارعين، وحتى من المقيمين الصينيين، وكل من عادى الحكم العسكري من دون وجود عدد نهائي رسمي لعدد الذين سقطوا جراء الحملة حتى اليوم.
من هذا التاريخ الدموي، ينطلق وثائقي The Act of Killing الذي أخرجه جوشوا أوبنهايمر، بمساندة كل من كريستين سين، وشخص إندونيسي مجهول الهوية، ليقدّم مادةً وثائقيةً عن كل من أنور كونغو، وعدي ذو القادري اللذين كانا من قيادات ميليشيا «البانكسيلا» الإندونيسية التي أوكلت إليها مهمة ذبح الشيوعيين. يتفق أوبنهايمر مع الاثنين على إخراج فيلم يؤديان فيه دور البطولة أيضاً. يعيد الشريط تصوير عمليات القتل تلك حسب الطريقة التي يرتئيانها، وبحسب الأسلوب الهوليوودي المفضّل لديهما! النتيجة كانت غرائبية ومزعجة بالفعل. لم يستعد الاثنان المشاهد الدموية بالتفصيل من خلال استخدام الماكياج والأزياء والمؤثرات الخاصة فحسب، بل ظهرت الصورة السينمائية مختلطة بمشاعرهم وذكرياتهم، متأثرة بأفلام العصابات وأفلام جون وين وحتى الأفلام الموسيقية.
في أحد المشاهد في بداية الفيلم، يوضح هيرمان كوتو زميل أنور لأحد الأطفال كيفية تمثيل مشهد اقتحام بيت شيوعي وحرقه. صراخ الأم والأطفال في المشهد من جهة، وصراخ أفراد الميليشيا من جهة أخرى لا يلبث أن ينقلب إلى ضحك وتصفيق بعد كلمة cut. انفصام بين الفعل وردّ الفعل أمام العدسة كما هي شخصية أنور أيضاً، ونظرته الهادئة من خلف نظاراته وهو يراقب إعادة تمثيل مشهد، أو وهو يشرح أمام العدسة كيفية خنق ضحيته بالأسلاك ووسائل التعذيب الأخرى. يبدو أنور مرتاحاً ومستمتعاً أمام الكاميرا، وهو يستعيد ذكرياته الدموية، هو الذي قتل بيديه ــ بحسب كلامه ـ أكثر من ألف ضحية، أو وهو يناقش مع عدي وهيرمان كيفية إعادة إخراج مشهد بطريقة أفضل، وموجّهين انتقادات فنية لبعضهما البعض على التمثيل.
من خلال مادته الوثائقية، يعمل جوشوا أوبنهايمر على البحث في فعل القتل ذاته. لا يخفي منطلقه الإنساني، عدسته الموجهة إلى أنور كونغو لا تحتمل أكثر من غرابة الواقع. لكن في هذه الحالة من المهم مناقشة ما إذا كان ممكناً البحث في خلفيات فعل القتل ذاته مجرَّداً من سياقه السياسي. بالتأكيد لا. في سعيهما إلى تبرير أفعالهما، يستنجد أنور وعدي بالتاريخ كمبرر. التاريخ يكتبه المنتصرون بحسب العبارة الشهيرة. عدي لا يعتبر ما قام به جريمة حرب؛ لأنّ «جريمة الحرب يحددها الفائز، وأنا فائز، لذا أضع تعريفي الخاص»، ساخراً من الاتفاقيات الأممية والمحاكم الدولية.
لذا، يحمل الفيلم أسئلة عن الشر على مستويين: فلسفياً من منطلق الإنسانية وطبيعة الشر، وسياسياً بمناقشته حدثاً تاريخياً يروي فصلاً دموياً في تاريخ الإمبريالية. لا يكتفي بذلك، بل يضع هوليوود أمام مسؤولياتها في دموية أنور وعدي، فهما محبّان للسينما الهوليوودية، وخصوصاً أنور الذي تأثر بأفلام العصابات. وقبل تجنيدهما، كانا بائعي تذاكر في السوق السوداء، حين كان الشيوعيون يطالبون بمنع الأفلام الأميركية، ما أثّر على مبيعات التذاكر، وبالتالي على دخلهما. وها هما يعيدان خلق الماضي في قوالب سينمائية عدة أيضاً، تأثرا بها خلال قتلهما ضحاياهما بسعادة.
غرائبية الصورة عند أوبنهايمر هي ما يميز تجربة المشاهدة المزعجة هذه، إلى جانب صدمة فعل القتل ذاته وهو يتلى عليك بكل هذا الفخر والبساطة. الاحتفاء بالقتل بوصفه عملاً عادياً يومياً لا يخلو من الفكاهة السوداء والاستجابة لمتطلبات المزاج. السوريالية تطغى على المادة الوثائقية من طريق أسلوب الفيلم داخل الفيلم. لا توجد مشاهد أرشيفية، لكن إعادة التمثيل مزعجة إلى درجة أنّها قد تجبرك على مغادرة مقعدك. ربما هو الشعور بالغثيان الذي يسببه تضارب العواطف تجاه ما تشاهد من سعادة ولامبالاة تجاه القتل الذي يبدو واضحاً أنّه لم يكن بارداً. ومع ذلك، يثبت التاريخ ما لا يراد الاعتراف به مع استمرار الاحتفاء بهذا التاريخ الدموي وعدم محاسبة المسؤولين: الماضي لطّخته أياد رجعية بمساعدة غربية، إحدى المعادلات المتكررة للسيطرة والهيمنة الرأسمالية. قسوة فيلم جوشوا أوبنهايمر في واقعيته الغرائبية، تعيد رواية فصل تاريخي أسود جرت محاولة إخفائه، ويشكّل وثيقة سينمائية هامة عن الحالة الإنسانية والتاريخ الدموي.



احتفاء نقدي

فور طرحه في الصالات، نال فيلم جوشوا أوبنهايمر The Act Of Killing احتفاءً من قبل النقاد الذين وصفه بعضهم بـ«أنه لا مثيل له في تاريخ السينما». إلى جانب ذلك، حاز مجموعة من الجوائز، منها «جائزة الجمهور لأفضل فيلم» و«الجائزة الكبرى للجنة التحكيم» فيDocumenta Madrid 2013، وجائزة Aung San Suu Kyi في «مهرجان حقوق الإنسان 2013» في ميانمار.