«رابعة العدويّة» اسم بات يتكرّر كل يوم منذ اتخذ الإخوان المسلمون من «رابعة العدوية» ميداناً لتظاهراتهم. ومع أنّ رابعة هي من أشهر نساء العرب، إلا أنّ الذّاكرة الرّاهنة ربّما ما زالت تستعيدها مرتبطة بفيلم «رابعة العدويّة» الذي أنتج عام 1963 وأدّت بطولته نبيلة عبيد.
يعرّفها ابن خالكان (608ـــ 681هـ) في كتابه «وفيات الأعيان» بأنّها «أم الخير رابعة ابنة إسماعيل العدوية البصرية مولاة آل عَتِيكٍ الصالحة المشهورة. كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة».
ويقال سمّيت رابعة لأنها كانت رابعة أخواتها. وإذ توفي والداها في البصرة وتشتّت شمل الأسرة، خرجت تهيم على وجهها إلى أن رآها من سوّلت له نفسه أن يأسرها، ويبيعها بستة دراهم لرجل استعملها في بيته كخادمة وأثقل عليها بتعذيبها، ما دفعها إلى الهرب، فما كان منها وقد أنهكها التعب إلّا أن جلست تناجي ربّها أن يعينها، فسمعت صوتاً من داخلها يهتف بها «لا تحزني لأنّه في يوم الحساب، فإنّ المقربين سينظرون إليك ويحسدونك على ما أنت فيه». فما كان منها إلّا أن عادت إلى سيّدها راضية بخدمته وقسوته، مستغلّة أيّ خلوة للتعبّد، إلى أن رآها السيّد مرّة ساجدةً، وسمعها تقول: «يا رب لكم يتمنّى قلبي طاعتك وأن أبذل عمري متعبدة لك، ولو كان الأمر بيدي، ما توقّفت عن هذه العبادة، ولكنّ أمري بيد سيدي»، فما كان من السيّد إلا أن أعتقها.
وإذ عرفت رابعة العدويّة بأنّها المرأة المتصوّفة، فإنّ في أخبار حياتها ما يدلّ على أنّها أمضت بعضاً من شبابها تعمل مغنيّة وعازفة على الناي والدف. ورد لدى لسان الدين الخطيب في كتابه «روضة التعريف في الحبّ الشريف» الذي أرّخ فيه لنظريّات الحبّ الإلهي أنّها سئلت: «يا رابعة من أنت؟» فقالت: «كنت أضرب الطبل بالدفّ فما سمع غيري» وأنشدت: «بالله يا ريح الصبا مرّي على تلك الربى/ وبلّغي رسالتي بنصّها أهل قبا». ورابعة كما وصفها الهجويري هي «بداية التصوّف ونهايته، لأنّ مقامات التصوّف وأحواله وألحانه ومواجيده وكشوفه وإلهاماته لا تزال على ما رسمته وكما عبّرت عنه وتذوّقته».
وإذا كان التصوّف حالة دينية نشأت في القرن الثاني الهجري كنزعات فرديّة تدعو إلى الزهد وشدّة العبادة، فقد تطوّرت لاحقاً لتغدو طرقاً مميّزة عرفت باسم الصوفيّة. ومع أنّ التصوّف هو دعوة إلى الزهد والورع والتوبة والرضا، وهي أمور من الإسلام ويحثّ عليها، إلّا أنّ المتصوّفة لم يسلموا من اتهامهم بالزندقة، ومحاربتهم وتعذيبهم وقتلهم في أحيان كثيرة، كما حدث مع الحلاج الذي سجنه الخليفة المقتدر، فعذّب وضُرب وقُطّعت أطرافه الأربعة، ثمّ قُتل وحُزّ رأسه، وأحرقت جثته، ورُمي رمادها في نهر دجلة ونصب رأسه على جسر بغداد.
وإذا كانت رابعة العدويّة قد سلمت من مصير مشابه لمصير الحلاج، إلا أنّها لم تسلم من الأخبار التي تحاول على الدوام التشكيك في مسيرتها، وحياتها، ومحاولة تجريدها من تجربتها الإنسانيّة الغنيّة التي أفضت بها إلى تجربة روحيّة أكثر غنى، ما دفع الكاتب والأكاديمي عبد المنعم الحفني إلى تلقيبها بإمامة العاشقين والمحزونين في كتابه «رابعة العدوية إمامة العاشقين والمحزونين» («دار الرشاد»، القاهرة ــ 1991).
وإذا كان الجميع يستذكر أبياتها: «أحبّك حبين حبّ الهوى وحبّ لأنّك أهل لذاكا/ فأمّا الذي هو حبّ الهوى فذكرٌ شغلت به عن سواكا/ وأمّا الذي أنت أهلٌ له فكشفك الحجب حتّى أراكا»، فإنّ في بعض مقولاتها ما يفسّر الكثير من نهجها، وفكرها، وهي القائلة: «اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم». وقالت لأبيها: «يا أبت، لست أجعلك في حِلٍّ من حرامٍ تطعمنيه». فقال لها: «أرأيتِ إن لم أجد إلا حراماً؟» قالت: «نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار».
ولعلّ ما كتب في أخبار رابعة العدويّة، وما تمّ تناقله، أثار الكثير من اللغط حول شخصيّتها وحياتها، ما يفسّر الكثير من الخلافات التي ما زالت قائمة بشأنها حتى اليوم، مع العلم بأنّ أقرب المؤرّخين إليها زمانياً كان الجاحظ ولم يروِ عنها إلّا القليل القليل.
إذا كان التاريخ العربي مليئاً بالمغالطات، فهو مليء أيضاً بالدم. ولعل أهم ما أنجزه أدونيس في كتابه «الكتاب ـــ أمس المكان الآن» هو التوثيق لكمّ هائل من الدم الذي سفك على مرّ العصور يفسّر ربما الدمويّة التي ينتهجها الإخوان اليوم متّخذين من ميدان «رابعة العدويّة» ساحة لتلبس معركتهم لبوس السلميّة. وبذلك تصحّ مقولة أدونيس في الكتاب: «في هذا الزمن الذي يتآكل ويحدودب، نقول: خيط ما يربط بين ماضي الولاية ومستقبلها مروراً بالحاضر. أوه، يا للإنسان الذي لا يرى أمامه كلّما تقدّم إلّا القديم».