يندرج مصطلح ما بعد الكولونيالية في سياق دراسات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وما بعد الماركسية، وعلى نحوٍ أدق، تعقيدات الهويات الكولونيالية وما بعدها، وكيفية صوغ الصدام الاستعماري لسياسات الهوية والتعددية الثقافية وارتباطهما بأشكال العنف والسيطرة.
في «الكولونيالية وما بعدها» (التكوين ــــ دمشق، ترجمة باسل المسالمة)، تضع آنيا لومبا لبنة إضافية على ما أنجزه مفكرون أمثال إدوارد سعيد، وتيري إيغلتون، وهومي بابا، في قراءة الخطاب الاستعماري. توضح الباحثة البريطانية الهندية أنّ الدراسات ما بعد الكولونيالية ما زالت موضع تساؤل، بسبب رطانتها وعدم وجود طابع سياسي لها إلى حدّ ما، وبسبب تشجيعها نهجاً نخبوياً حيال الثقافة والأدب، وعدم قدرتها على تفسير تعقيدات العولمة.
بين قوسي الحقبة الاستعمارية الأوروبية، وفكرة الإمبراطورية الأميركية، هناك محاولة لتمويه تاريخ الكولونيالية الدامي عبر انخراط دراسات ما بعد الكولونيالية بأسئلة أكاديمية مستحدثة تتعلق بالحركة النسوية ومثليي الجنس والنقد الاجتماعي. ويرى المدافعون عن هذه الدراسات أنها أسهمت في الإضاءة على «تاريخ الإمبريالية الأوروبية وإرثها». هذه الرطانة في تفسير سياقات ما بعد الكولونيالية، أضفت على أطروحاتها نوعاً من الإرباك والتعقيد والانتقادات الحادة لجهة غياب التجانس وتشعّب اهتماماتها الفكرية: «هل أصبح عالمنا المعاصر إمبريالياً أكثر من ذي قبل، أم أنّ الشبكات العالمية المعقّدة والجديدة، أعادت هيكلة ميراث الإمبراطوريات الأقدم على نحوٍ راديكالي لتجعلها فائضة أو زائدة؟» سؤال جوهري تطرحه آنيا لومبا في إطار قراءة الظاهرة الاستعمارية من ضفة مضادة تتمثل بالنظرة الشمولية إلى العالم بوصفه تاريخاً إنسانياً مشتركاً، وتالياً، إمكانية فهم أحدهما للآخر، من دون أوهام، من خلال إعادة فحص الإيديولوجيات المحلية التي كانت موجودة ما قبل الكولونيالية وقراءة تفاعلاتها مع الحقبة الاستعمارية: «لم تفرض الكولونيالية نفسها على أرض نظيفة، ولذلك لا يمكنها أن تُفسّرَ كل شيء موجود في المجتمعات ما بعد الكولونيالية» تقول لومبا.
وعلى غرار ما فعله إدوارد سعيد في «الاستشراق»، تستنجد لومبا بنصوص أدبية وفكرية، وخصوصاً ماركسية، بهدف كشف تلاعبات الأنظمة الكولونيالية بالهويات العرقية والإثنية، وتقويض الخصوصيات الثقافية المحلية لمصلحة ثقافة المركز. لكن هل نجحت القوة الكولونيالية في إسكات المستعمَر؟ هناك وجهات نظر مختلفة ومتناقضة في قراءة الخطاب الكولونيالي، وفقاً لما تقوله هذه الباحثة. ولعل المعضلة التي تواجه نظريات ما بعد الكولونيالية هي كيفية التعبير عن السرديات المحلية في ظل اكتساح الرأسمالية المعولمة الأنماط القديمة للحدود بتهميش الإنتاج والثقافات الأصلية، وفي هذا السياق «ثمة حاجة الآن لسرديات أصغر، مع اهتمام خاص بالطبوغرافيا المحلية، لتغدو الخرائط أكثر شمولية».
وتشير آنيا لومبا إلى أنّ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، أو ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب، والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، أسهما في تراجع فكرة العالم ما بعد الكولونيالي لمصلحة الإمبراطورية الأميركية الجديدة، ما أيقظ التفكير مجدّداً في مسائل الهيمنة والمقاومة التي أثارتها الحركات المناهضة للاستعمار. وتالياً، فإنّ دراسات ما بعد الكولونيالية أمام مفترق جديد، وخصوصاً في ظل العولمة الكاسحة لعالم اليوم، وقد ألغت مفهوم الهوامش والمراكز المحورية، فالإمبراطورية لا تؤسس مركزاً أرضياً للسلطة، ولا تعتمد على حدود أو حواجز ثابتة، بل تدير الهويات المهجّنة والتسلسلات الهرمية المرنة والتبادلات المتعددة عبر تحوير شبكات القيادة «وقد اندمجت الألوان الوطنية المميَّزة على الخارطة الإمبراطورية للعالم وامتزجت مع قوس قزح الإمبريالي العالمي». في المقابل، تستشهد آنيا لومبا بأفكار كثيرة تؤكد أنّ الإمبراطورية الجديدة ستواجه تحديات جديّة، وهي عرضة لكل أنواع التمرّد. ولعل مواكبة التطورات الأحدث تنطوي على مقدرة عالية في مواجهة عبودية «الموشور الثقافي للرأسمالية العالمية المعاصرة». مهمة الدراسات ما بعد الكولونيالية إذاً، ينبغي أن تتمحور حول فحص ماضي الإمبراطوريات بشكل كامل، فلا فرق جوهرياً بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الأميركية.