ما كانت ليلة الأربعاء الماضي لتمر عليّ مرور الكرام. فقد شاهدت على تلفزيون «الجديد» برنامج «بلا تشفير» لمقدمه تمام بليق. وهذا الإعلامي ينكز خفايا الخفايا، ويفاجئك كأنه يعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك، كالسيارة التي تحاذيك فتخيفك من دون أن تدهسك.
وكان الضيف في آخر حلقة هو «آخر الصعاليك» صلاح تيزاني المعروف بأبي سليم الطبل. لقد أبكيتني يا أبا سليم وإن كنت موفقاً في اسمك الفني، فنحن كلنا طبول يا أبا سليم. طبول فارغة تصدر أصواتاً قوية. حتى هذه الأصوات، فإنّها قوية على الأخوة العرب، فمن هي هذه الدولة ومن هو فلان وعلان؟ أما أمام الأجنبي فالعرب كالأرنب.
أبو سليم رفيقنا منذ أن كان «تلفزيون لبنان» وكان اسمه يملأ الدنيا. وقد علّمت في إحدى المدارس الخاصة، وكان من ضمن البرنامج درس في المحفوظات. ولما لم يكن هناك كتاب للمحفوظات، كنت أؤلف شعراً أو أهازيج للطلاب، ومنها أهزوجة لأبي سليم وقد ألّفت على وزنها:
«هلا هلا ليا هلا هلا ليا يا جنود الحرية
بلادنا جنة حلوة ونحن حراسها
افديها بدمي وروحي ارضي العربية».
وكان الطلاب ينتظرون درس المحفوظات ليرددوا الأهزوجة. كان أبو سليم فناناً وموحياً.
شاهدت وبكيت وعدت إلى تاريخنا اسأل ماضيه عن آتيه، فتذكرت «الشعراء الصعاليك». والشعراء في كل أمة هم خيرة مفكريها، والمعبرين عن آمالها وأحلامها، والمدافعين عن شرفها وعزتها. وكنت أقرأ أنّ القبيلة التي يبزغ فيها شاعر، تقيم الأفراح والليالي الملاح، فها هو سيف بتار يذود عن الحمى والديار، يكيد الأعداء الألداء، ويعلي شرف الأهل الصناديد الأوفياء.
أعود وأقول قرأت، وقرأت أيضاً أنّ شعراء كباراً وقبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، كانوا يحترفون اللصوصية وقطع الطرق ليحصلوا على ما يقيم أودهم، وأشهرهم وأحبهم الى نفسي الشاعر عروة بن الورد. هو مع مجموعته كانوا يحترفون قطع الطرق سيراً على اقدامهم، فلا ناقة ولا فرس. وكان يوزع ما يحصل عليه في مغامراته على الفقراء وكبار السن. وكانت امرأته تخشى عليه، وتنصحه أن يستبقي شيئاً لعائلته، فيقول لها في قصيدته المعروفة وأذكر منها هذا البيت: «دعيني للغنى أسعى فإني/ رأيت الناس شرهم الفقير».
وأضيف أنّ هذه الزوجة طلبت من زوجها أن يطلقها، فسألها إن كان فعل ما يسوؤها، فقالت: «والله لا أعلم أن امرأة في بلاد العرب اجتمعت على رجل خير منك، ولكني كرهت قول قومك: يا سبية عروة». فألحقها بأهلها فزوجته إذا سبية ظفر بها في إحدى غاراته أو مغامراته. كما لا أنسى الشنفري وهو صعلوك آخر وصاحب قصيدة «لامية العرب». كانت تمر عليه أيام لا يجد فيها طعاماً حتى يصاب بالذهول ويكاد يستف التراب. ومنهم تأبط شراً وغيره. أما اشهرهم فهو طرفة بن العبد، وهو من أصحاب المعلقات وشعره يختلف عن شعر من سبقه، ففيه فكر وجدة أو حداثة إلى فروسية وإقدام.
فترى هذا الشاعر المبدع يجوب الآفاق من البحرين الى اليمن بحثاً عن الرغيف ثم يموت في العشرينيات من عمره ويعرف «بالغلام القتيل».
أنا اذكر بعض الشعراء وهؤلاء من كبارهم، وعليك أن تفكر فيما هم دونهم موهبة كيف ماتوا؟!
اقفز معي إلى عصر الخلفاء الراشدين، أذكر فقط الشاعر الحطيئة وهو مشهور بهجائه وسوء خلقه. وقد هجا الزبرقان بن بدر، فشكاه الى الخليفة عمر بن الخطاب. وسأل عمر شعراء وهم كثر: هل في هذه القصيدة هجاء، فقالوا نعم. لقد هجاه هجاء مراً، وأنا اذكر له في هجاء الزبرقان: «دع المكارم لا ترحل لبغيتها/ واقعد فإنك انت الطاعم الكاسي». وهو يريد اقعد، فأنت المطعوم المكسو، فسجنه عمر ثم أطلقه وأعطاه مالاً، وقال له أنا أشتري بهذا المال أعراض المسلمين، أي أنّه محظور عليه الهجاء، فقال الحطيئة: «إذا يموت أولادي».
هات يدك الى العصر الأموي واذكر فقط جرير، وهو احد الفحول الثلاثة في العصر الأموي، الأخطل وجرير والفرزدق. صمد جرير لأكثر من ثلاثين شاعراً في الهجاء، وقد بكى على قبر زوجته وقال: «لولا الحياء لعادني الاستعبار/ ولزرت قبرك والحبيب يزار». هذا هو الرجل العربي، عيب عليه أن يبكي على زوجته وعيب عليه أن يزورها في قبرها.
نحن أمة صدق فيها القول: «أغاية الدين أن تحفوا شواربكم/ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»

أعود وأقول إنّ هذا الشاعر الكبير في كل العصور مرّ بقبيلة عربية، وطلب منهم أن يضيفوه فأبوا وقالوا: إنما نبيعك الطعام بيعاً. فقال جرير للرجل: «يا مالك بن طريف ان بيعكم/ رفد القرى موهن للدين والحسب/ قالوا نبيعكه فقلت لهم/ بيعوا الموالي واستحيوا من العرب».
هذه قبيلة لا تطعم شاعراً كجرير، ويحدثونك عن الكرم العربي الذي لم أره كما لم يره جرير.
لنسرع إلى العصر العباسي وفيه شاعر فهم اللعبة منذ البداية هو بشار بن برد الذي قال للشعراء: إذا اعتمدتم على أريحية وكرم الأمراء وأصحاب المال، فاستعدوا للفقر ولكن عليكم بالهجاء. أيّ أنّ هؤلاء البخلاء الذين لا يقيمون وزناً لعلم أو أدب، لا يدفعون درهماً إلا خوفاً ورهبة. فكان يمدح الرجل أولاً، فإن لم يجزل له العطاء وسريعاً يتحول الى الهجاء. وكان الناس يخافون على أعراضهم وسمعتهم، فيجزلون له العطاء، حتى الفقهاء وأعلام اللغة كانوا يخشون هجاءه.
هذا عصر فيه آلاف الشعراء منهم من كان يأخذ مقابل شعره خضاراً وفاكهة مثل البحتري قبل قدومه إلى بغداد. أسرع يا أخي، أسرع ولنقفز قفزة واسعة متخطين عصر الانحطاط، وإنما نذكر فيه شاعراً للخديوي وهو والي مصر.
مر الخازندار أي وزير المالية أمام غرفة شاعر القصر، فكتب على الباب: «إنما نطعكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا». قرأ الشاعر ما كتبه الخازندار فرد عليه وعلى باب غرفته بهذا النظم الذي يمثل عصر الانحطاط : «كان في عنا طاحونة جوا الدار/ تدور وتطحن ليل نهار/ دورت فيها الطور عصي/ دورت فيها الخازندار» هكذا كتبها «الطور» أي الثور.
وكان الخديوي عندما يسمع «دورت فيها الطور عصي دورت فيها الخازندار» يكاد يقلب على قفاه من الضحك.
لا تعجب يا أخي، فنحن لا نزال في عصر الانحطاط وإن تقدم الأدب منذ اوائل القرن العشرين وظهر شعراء كبار اتخذوا من العصر العباسي قدوة لهم واعتبروه أهم العصور العربية ادباً وعلماً، فظهر شعراء مثل محمود سامي البارودي، وحافظ ابراهيم، وأحمد شوقي، وأدباء كبار مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد إلى الشرقاوي، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وغسان كنفاني، ومحمود درويش، ونزار قباني وعشرات غيرهم.
وعصرنا الحديث لا يختلف في شيء عن القديم. نحن أبناء آبائنا وأجدادنا «ومن شابه أباه ما ظلم». اترك لك أن تتذكر كم مبدعاً في أيامنا مات ولم يجد ثمن الدواء. ومنهم من مات على المسرح مثل فهمان، ومنهم من مات على الطريق، ومنهم من أعجزته الحياة حتى يذهل عن نفسه.
لا تحزن يا ابا سليم، فنحن أمة صدق فيها قول الشاعر:
«أغاية الدين أن تحفوا شواربكم/ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»

* كاتب فلسطيني مقيم في لبنان