تجوس الرواية العراقية الجديدة تضاريس سردية كانت طيّ الكتمان في عملية تشريح من الداخل للطبقات المهمّشة والمهملة والمحتضرة، كأن اندثار «حزب البعث» الذي جثم طويلاً على حيوات البشر بسرديات مضادة، قد خنق أي فسحة لتعبيرات الآخر. وهو هنا، الجنوبي الذي عاش مقهوراً داخل أسوار مدينة الثورة المتاخمة لبغداد، مكتفياً بمهن وضيعة تضعه تحت خط الفقر والكرامة والعزلة. أبطال عبد الله صخي في روايته «دروب الفقدان» (دار المدى) خرجوا من صرائف النخل في الجنوب تحت وطأة الإقطاع، إلى أزقة الطين في هذه المدينة العجائبية التي أهداها لهم عبد الكريم قاسم، قبل أن يطيحه انقلاب عسكري، ويدمّر حلماً لم يكتمل. كان الروائي العراقي قد اقتفى شخوصه في هجرتهم الأولى من الجنوب، مطلع العشرينيات في «خلف السدة» (2008). وها هو يتتبع مصائرهم في المدينة خلال السبعينيات الصاخبة. سيختفي الأب من صورة العائلة، فيما تعيش زوجته مكية الحسن وابنتها مديحة وابنها علي سلمان في ظل العوز والحرمان والفقدان.
بين قوسي العتمة في غرفة ضيّقة، والفضاء المفتوح في ملعب لكرة القدم، سيشهد علي سلمان أول عملية إعدام علنية في مدينة الثورة. هكذا تتناوب حالات العتمة والضوء بين الأمكنة، لتتكشف مراتب العنف منذ انقلاب تموز 1963؛ إذ تهيمن السلطة الانقلابية على كل منافذ الحياة، فما إن يصحو علي سلمان من كابوس الإعدام، حتى يستعيد مشهد قتل مهدي جابر وإلقاء جثته في الشارع. بين ورشة البناء والمقهى والمدرسة، تتوزّع مكابدات علي سلمان الذي سيجد في الغناء ملاذاً لأحلامه المنهوبة. لا تتوقف حالات الانتهاك عند حدود الرغبات الفردية لعلي سلمان، بل تلقي بظلالها على أرواح شخصيات أخرى، سيفقدها فصلاً تلو الآخر، إما بمغادرة المكان، أو الاعتقال، أو الموت. لا فسحة للأمل في «دروب الفقدان»، فالبلاد منذورة للدم والعنف ومخاضات الوهم والتصفيات الداخلية.
يسعى عبد الله صخي إلى تأريخ الصراعات السياسية بين البعثيين والشيوعيين وانعكاسها على الشارع العراقي والاعتقالات المتتالية. حتى علي سلمان سيختفي فجأة، وستموت أمه من دون رؤيته. في خلفية المشهد الدامي، ترتسم وقائع من ميثولوجيا الجنوب بطقوسها الجنائزية ونذورها وقديسيها وأغانيها الفجائعية، كأن علي سلمان بصوته الشجي أراد أن تكون الموسيقى بديلاً من العنف، لكنه سيفشل في عبور برزخ الضاحية المهمّشة إلى المركز وأسواره العالية. نص الجنوب يحفر متأخراً في المشهد الروائي العراقي، من موقعٍ مضاد، أقله لجهة المكاشفة وفضح الخزي في ظل خطاب رسمي أقصى هذا النص طويلاً، خلف أسوار شعارات جوفاء، أطاحت كل ما لا يشبهها، لتمجيد الفرد، وتكميم أفواه الحشود عبر تدمير بنية الشخصية العراقية منهجياً. هكذا يغيب علي سلمان، وعلوان عزيز، وكاظمية محمد، وسعد كابور، وبشار رشيد في دروبٍ زلقة، تؤدي إلى الاعتقال أو المطاردة أو الهرب خارج البلاد، لكن هذه المحاولات القسرية في عطب تطلعات هؤلاء البشر المنسيين، لن تمحو ظلالهم كذاكرة عصية على النسيان، ذلك أن عبد الله صخي أعاد صوغ حياتهم في مدوّنة شعبية حارة تمزج بين التأريخ والمقاربة السوسيولوجية للمهمشين، وسيهدي صندوق مكية الحسن صورة بالأبيض والأسود، احتفظت بها كأيقونة مقدّسة، هي صورة عبد الكريم قاسم.