تاريخ طويل من السجون والسرية والمنع والاحتجاج والتضحيات عاشه اليسار التونسي. ورغم تجذره في التربة التونسية منذ عشرينيات القرن الماضي ومساهمته الفعّالة في الحركة الوطنية من أجل الاستقلال جنباً إلى جنب مع «الحزب الاشتراكي الدستوري»، الذي حكم البلاد لاحقاً، فإنّ اليسار ظلّ دوماً على هامش الحكم. خلال انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، لم يتجاوز حضوره «الصفر فاصل» كما نعتته الترويكا الحاكمة. نسبة لا تعبّر في شيء عن عراقة تجربة اليسار التونسي بكلّ فصائله. عبد الجليل بوقرة المتخصّص في التاريخ الحديث والباحث في «المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية» في تونس، خصّص كتابه الجديد «فصول من تاريخ اليسار التونسي ــــ كيف واجه الشيوعيّون وبرسبكتيف نظام الحزب الواحد ١٩٦٣ ــــ ١٩٨١» (دار آفاق برسبكتيف للنشر في تونس) لدراسة البيئة التاريخية والاجتماعية والسياسية التي ولدت فيها تجربة اليسار التونسي. فعل الباحث ذلك مضيئاً على تجربتين أساسيتين هما «الحزب الشيوعي التونسي» و«حركة آفاق» المعروفة بــ«برسبكتيف». تشكّل هاتان التجربتان الرحم التي نشأت فيها كل فصائل اليسار التونسي الذي تشتت في بداية من السبعينيات في مجموعة طلابية صغيرة انتهت إلى ما يشبه الاندثار مقابل صعود صاروخي للإسلام السياسي ممثلاً في «حركة النهضة» و«حزب التحرير» والسلفيين. في هذا الكتاب، يكشف بوقرة عن الملابسات التي أدت إلى الانشقاقات في اليسار التونسي، بدءاً من الموقف من «الحزب الاشتراكي الدستوري» الحاكم سابقاً، ومروراً بـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، وصولاً إلى البورجوازية الوطنية.
هذا الكتاب الصادر عن «دار آفاق ـ برسبكتيف للنشر» في تونس ضمن سلسلة «آفاق للعلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية» يأتي في مناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس «حركة آفاق» التي انطلقت في باريس كمجموعة طلابية منشقة عن «الاتحاد العام لطلبة تونس» في عام 1963 بعد إلغاء الزعيم الحبيب بورقيبة (1903 ـــ 2000) التعددية الحزبية. اتخذت المجموعة لنفسها آنذاك تسمية «تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي ــ برسبكتيف». كان الهدف من تأسيس هذه الحركة تَونسة اليسار والتماهي مع الواقع التونسي بعد إعلان أبي الاستقلال، الزعيم بورقيبة، نظام الحزب الواحد وإلحاق المنظمات الوطنية مثل «اتحاد الطلبة» و«منظمة المرأة» و«منظمة الفلاحين» و«منظمة رجال الأعمال» و«الاتحاد العام التونسي للشغل» بالحزب الحاكم. هذا الأمر رفضه مؤسّسو الحركة الذين كانوا طلبة في باريس آنذاك، ورفضه كذلك زعيم «الاتحاد العام التونسي للشغل» أحمد التليلي الذي غادر تونس إلى المنفى الفرنسي.
تحولت «حركة برسبكتيف» بسرعة إلى منظمة سرية نقلت نشاطها إلى تونس وانتشرت دعوتها في الوسط الجامعي والثقافي، ودخلت في خلاف عميق مع «الحزب الشيوعي التونسي» الذي كان أوّل تنظيم يساري في تونس؛ إذ ظهرت الحركة الشيوعية في العشرينيات من القرن الماضي وساندت الزعيم محمد علي الحامي (1890 ـــ 1928) مؤسس أول حركة نقابية في العالم العربي عام 1924، لكنّ السلطات الاستعمارية الفرنسية قضت عليها عام 1925، وحكمت عليه بالتشريد خارج البلاد. ومن بين رفاقه آنذاك الطاهر الحداد رائد الدعوة لتحرير المرأة. انطلق «الحزب الشيوعي التونسي» فعلياً في عام ١٩٣٦ يوم أصدر الشيوعيون التونسيون المنشقّون عن الحزب الشيوعي الفرنسي بقيادة علي جراد جريدة «الطليعة»، ثم عقدوا مؤتمراً تأسيسياً سنة ١٩٣٩.
وفي الوقت الذي اتجه فيه الحزب الشيوعي إلى مساندة الاتحاد السوفياتي، ساندت «حركة آفاق» الصين. وهكذا، بدأ الخلاف بين المجموعتين يتعمّق إلى أن تحوّل اليسار التونسي إلى «دكاكين» حزبية صغيرة ما زالت الحركة اليسارية لم تتخلص من تبعاتها حتى الآن. وهذه الخلافات التي اتخذت أيضاً طابعاً شخصياً في الكثير من الأحيان، ما زالت تداعياتها مستمرّة في المشهد السياسي التونسي في وقتنا الحالي. نجد مجموعة من الأحزاب اليسارية التي اغتيل زعيمها شكري بلعيد (1964 ـــ 2013) قبل أن ينجح في توحيدها، في حين أنّ الخلاف الأصلي بدأ من الموقف من الصين والاتحاد السوفياتي في أواخر الستينيات بين الحزب الشيوعي المتّهم بـ«الإصلاحية» و«التحريفية» وبين التيارات الماوية التي تمثلها «برسبكتيف» وكانت تدعو إلى ثورة الفلاحين، في الوقت الذي لم يكن فيه لأي عنصر من الحركة أي علاقة بالفلاحين ولا بالعمّال.
يغوص كتاب «فصول من تاريخ اليسار التونسي ــــ كيف واجه الشيوعيّون وبرسبكتيف نظام الحزب الواحد ١٩٦٣ ــــ ١٩٨١» في تفاصيل معاناة اليساريين في مواجهة سلطة الحزب الواحد والزعيم الأوحد الحبيب بورقيبة الذي انقلب على الشيوعيين بعدما تحالف معهم في تخليص البلاد من الاستعمار الفرنسي. هكذا، منع حزبهم من النشاط كما منع المجلات والصحف والدوريات التي كان يصدرها الحزب منذ عام ١٩٦٣ حتى عام ١٩٨١ عندما سمح لهم بالنشاط والمشاركة في أول انتخابات تعددية سنة ١٩٨١. لكن الزعيم دلس نتائجها لإقصاء المعارضة، وزجّ في السجون كل قيادات الحزب الشيوعي الذين لجأوا إلى العمل السري. كذلك تعرضت «حركة آفاق» لحملة قمع منظّمة انتهت بأغلب قياداتها إما في السجون أو المنفى الفرنسي. كانت أكبر حملة قمع تعرض لها اليساريون سنة ١٩٦٨ التي تزامنت مع ربيع فرنسا والاحتجاجات الطلابية في أيار (مايو) ١٩٦٨، ثم في شهر شباط (فبراير) ١٩٧٢ الذي شهد أكبر حملة قمع استهدفت الحركة الطلابية التي كان يسيطر عليها اليسار التونسي بالكامل. حدث ذلك إثر انقلاب طلبة «الحزب الدستوري» الحاكم على انتخابات مؤتمر «اتحاد الطلبة» في مدينة قربة، وهو ما رفضته فصائل اليسار، ما أدى إلى تعليق نشاط الاتحاد من ١٩٧٢ إلى ١٩٨٨ عندما نجح اليسار في تنظيم مؤتمر خارق للعادة لمنظمة اتحاد الطلبة. لم يتعرض اليسار لهذا القمع فحسب، بل استهدف بورقيبة اليسار في الحركة النقابية في مناسبتين في عامي ١٩٧٨ و١٩٨٥.
الكتاب شهادة دقيقة موثقة بالصور والمقالات والبيانات التي تؤرخ لمسيرة اليسار التونسي الذي لم تقده من السجون والمنافي إلى السلطة مثلما قادت الإسلاميين، مع أنّ نضال اليسار كان أساساً من أجل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية، ولم يمارس العنف مطلقاً على عكس الإسلاميين الذين دبروا أكثر من محاولة للاستيلاء على الحكم. إنّها مفارقات التاريخ.