تونس | كما كان توقعاً، كانت مسرحية الفاضل الجعايبي الجديدة «تسونامي» حدث الصيف التونسي بامتياز منذ أن بدأت عروضها الأولى في «مسرح شايّو» في باريس خلال شهر أيار (مايو) الماضي. من العاصمة الفرنسية، انتقل الجعايبي إلى الجنوب التونسي ليقدمها في مدينة مدنين في قراءة سينوغرافية جديدة أثارت الكثير من الجدل، لينتقل بعدها إلى مدينة دقة الأثرية (شمال العاصمة) ليقدمها هذه المرة في السادسة مساءً من دون اعتماد الإضاءة، ليحقق بذلك مغامرة فريدة في الركح التونسي. وها هي المسرحية تنتقل إلى «مسرح قرطاج» وتُعرض أول من أمس ضمن فعاليات المهرجان العريق. إنّه الجعايبي مشعل الحرائق كعادته. حرائق السؤال في ثقافة عربية خرّبتها فضائيات النفط والبترودولار والدعاة والمشعوذون الذين يستغلون الدين ويتاجرون بآلام البسطاء كما قال الجعايبي لـ«الأخبار».
في هذه المسرحية التي تستغرق ساعتين تقريباً، يقدم الجعايبي (مخرجاً) ورفيقة دربه جليلة بكار (كاتبة) مرثية للثورة التونسية التي أفضت إلى كابوس بعد ظهور «تسونامي» الإرهاب والتطرف والسلاح كما أكّد لـ«الأخبار». يضيف الجعايبي: «مسرحية «تسونامي» صرخة فزع من أجل إنقاذ تونس. أعرف أنّهم لا يملكون إلا مشروعاً واحداً هو العنف والقتل والاغتيال، لكنّ مهمة المسرح أن يقاوم هذا الظلام الآتي، ولن نصمت ولن نخاف ولن نتراجع».
يشارك في «تسونامي» الى جانب الممثلة جليلة بكار كل من فاطمة بن سعيدان، ورمزي عزيز، ومحمد علي قلعي، ونور الهدى بالحاج حومة، وأسامة الجمعي، وتماضر الزرلي، وبسام العلوي، وعلي بن سعيد، وأميمة البحري ولبنى قنوني. في هذا العرض، يفكّك الجعايبي المشهد التونسي بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم، ويتوقّف عند جريمة اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، وتورّط أطراف في السلطة الجديدة في الاتجار بالبشر من خلال تجنيد الشبان للقتال في الحرب ضد النظام السوري، وظهور مجموعات من السلفيين تكفّر الفنانين وتعتدي عليهم وتحاصر الإعلاميين: «لقد تحولت الثورة التي صنعها شباب حالم إلى كابوس تحت حكم تجار الدين الذين خربوا مناهج التعليم والثقافة» يضيف الجعايبي.
حكاية المسرحية بسيطة. درة شابة محجّبة تنتمي إلى التيار الإسلامي يحاول أهلها تزويجها بالقوة، فتهرّب منهم وتلتقي بحياة (جليلة بكار) السيدة الستينية التي أمضت كلّ حياتها في النضال ضمن الحركة النسوية والديمقراطية. تتخلّى درة عن الحجاب، وتقرّر إعادة النظر في كل حياتها. وعن طريق حياة، تلتقي برمزي المحامي (رمزي عزيز) الذي يحصل من درة على وثائق تدين التيار الإسلامي، فيُغتال بالطريقة نفسها التي اغتيل بها شكري بلعيد.
المسرحية التي أعادت الجعايبي إلى الأضواء بعد غياب عامين، تحمل الكثير من المباشرة في الخطاب، وهي مباشرة مقصودة لأنّ الوضع الذي تعيشه تونس تحت حكم الإسلاميين لا يترك مجالاً للحياد ولا للإيحاء. يقول الفاضل الجعايبي لـ«الأخبار» إنّ هناك محطات مفصلية في تاريخ الشعوب يجب أن يؤدي فيها المسرح دوره ويسمّي الأشياء بأسمائها. لذا، جاء العمل بمثابة بروباغندا مباشرة ضد الإسلاميين، مع الإحاطة بما يحصل على الساحة العربية، كسقوط الطغاة، والحروب في سوريا وليبيا، والملتحين الذين غزوا البلاد العربية. وتبقى جليلة بكار بدور حياة ضمير هذا العمل، تكتسب شرعيتها من تاريخها النضالي الوطني، وهي التي تتمتع بشرعية محاسبة بعض الثوار الموالين للقوى الغربية الاستعمارية عن سبب سكوتهم عن تدخّل الصهيوني برنار هنري ليفي وحلف الأطلسي ونيكولا ساركوزي في الجارة ليبيا، تماماً كما يحق لها مواجهة الإسلاميين الذين يهددون بيتها ودارها وبلدها.
كان طبيعياً أن يكون الفاضل الجعايبي وجليلة بكار في طليعة المبدعين الذين شاركوا في الثورة التونسية. لذلك، فإنّ حسرتهما كبيرة اليوم وهما يشاهدان ما وصلت اليه البلاد وكيف سرقت أحلام البسطاء والفقراء في الكرامة، وكيف أصبح الفن والإبداع محاصراً من مجموعات سلفية تفهم الإسلام فهماً قروسطياً غريباً. إنّها مسرحية موجعة وحزينة ترثي الربيع العربي الذي تحول إلى كابوس ينذر بـ«تسونامي» سيغرق كل ما هو جميل، ويجعل الثقافة العربية يلفّها السواد والرايات السوداء.



مقاومة

اختار الفاضل الجعايبي وجليلة بكار الخروج والتمرد منذ
أعمالهما الأولى في مدينة قفصة في الجنوب الغربي التونسي
مطلع السبعينيات. واصل الثنائي عملهما مروراً بـ«المسرح الجديد» وصولاً إلى «فاميليا» في التسعينيات. وعلى مدى أربعين عاماً، قدّما مجموعة من الأعمال المرجعية في المسرح العربي مثل «فاميليا»، و«سهرة خاصة»، و«عشاق المقهى المهجور»، و«عائدة»، و«جنون»، و«خمسون»، و«يحيى يعيش». في كل هذه الأعمال، كانا يواجهان السلطة بكل عنفها، ما عرّضهما للمضايقات والرقابة. وكان مسرحهما عنصراً أساسياً في ثقافة المقاومة التي أطاحت الجنرال زين العابدين بن علي. وقد تنبّآ بسقوطه في آخر عمل قدماه
خلال حكمه، هو «يحيى يعيش».