لا ينخدعَنّ أحد: «ترامبو» فيلم هوليوودي بإمتياز. لا يضعفَنَّ أحد أمام النبرة «النضاليّة» الساذجة لهذا الاستعراض السطحي الذي أخرجه جاي روش عن سيناريو جون ماكنامارا المستوحى من حياة الكاتب والسيناريست الأميركي دالتون ترامبو. الفيلم ليس عن الحريّة في مواجهة القمع، ولا عن تلك النخب التي كانت ستعطي وجهاً آخر للولايات المتحدة، لولا حملات التطهير والابادة: فقمع النقابات في العقد الأوّل من القرن الماضي، واعدام المناضلين «ساكو وفانزيتي» في العشرينيات، وصولاً إلى المكارثيّة في الخمسينيات، قولبت الايديولوجيا المتوحّشة التي تختبئ الآن خلف واجهة الحريّة والديمقراطيّة. ليس الفيلم عن أميركا المغني وودي غاثري، ولا عن أميركا إيتيل ويوليوس روزنبرغ اللذين أعدما العام 1953 بتهمة «التجسس لصالح الاتحاد السوفياتي»، ولا عن الدور الذي لعبه «الحزب الشيوعي الأميركي» في الصراع ضد العنصريّة ومن أجل حقوق السود والحقوق المدنيّة، ودوره في بناء النقابات، وانخراط مناضليه ببسالة في الحرب العالميّة الثانية، لمحاربة النازيّة… هل نطلب كل ذلك من هوليوود؟
فيلم «ترامبو» لا يتعامل بأمانة مع الكاتب الذي سجن، ثم منع من توقيع اسمه على أي عمل في استوديوات هوليوود، باسم «الدفاع عن أميركا في وجه أعدائها». ولا يعيد الاعتبار إلى رفاقه «العشرة في هوليوود» الذين عانوا كل أشكال الاضطهاد والسجن والاقصاء والتهميش والتدمير المادي والمعنوي، بسبب مواقفهم السياسيّة النقديّة من الرأسماليّة، ومن أميركا البيضاء التي انتصرت عليهم وعلى أحلامهم: أميركا الرسميّة البشعة كما نعرفها الآن، تلك الدولة الاستعماريّة التي يحكمها حزب رأسمالي ضخم بجناحيه الجمهوري والديمقراطي. الفيلم لا يتوقف فعليّاً أمام كابوس «القوائم السوداء» التي أخرست فناني أميركا ودجنتهم بشكل لا عودة عنه، وأجبرت بعضهم على الصمت نهائيّاً، أو الخيانة والوشاية والتعاون مع «لجنة الأنشطة المعادية لأميركا» مثل إيليا كازان، أو على السفر مثل برتولت بريخت، وأورسون ويلز، وشارلي شابلن الذي صفّى حسابه مع المكارثيّة بفيلم ساخر عنوانه «ملك في نيويورك» (1957).
إنّها قصة فرديّة، عاطفيّة ونفسيّة في النهاية، متخمة بالعموميات، متوّجة بالنهاية السعيدة. سيأتي كيرك دوغلاس وينتشل ترامبو من الظلام ومنفى الأسماء المستعارة، ويضع اسمه على سيناريو فيلم كيوبريك Spartacus. ومثله سيفعل أوتو بريمنغر مع فيلم Exodus (أحد أشهر أفلام البروباغاندا الصهيونيّة في تاريخ السينما). وهكذا تنتهي المأساة، وتعود الأمور إلى نصابها. هكذا يُطمس جوهر الصراع، وتحنّط الشخصيّات التي لن نعرف أفكارها ولا دوافعها ولا رؤياها الحقيقية وعلاقاتها الفعليّة بالواقع، ولن نكتشف تصادمها الجوهري مع النظام القائم. «هل أنت شيوعي؟» تسأل ترامبو ابنتُه بعدما انطلقت حملة التشهير به. يجيبها: «هل أنت مستعدة لاطعام زوادتك لطفل جائع؟ (…). إذاً أنت شيوعيّة». الباقي لا يهمّ هوليوود التي تصنع الايديولوجيا الرسميّة لأميركا، وتعيد انتاج أسطورة التفوق الأميركي، والأخلاق الأميركيّة، إلخ.
وشريط جاي روش في السياق نفسه، يمجّد أميركا وديمقراطيّتها وعظمتها، وقدرتها على تجاوز «المكارثيّة»: هذا الخطأ «العارض» و«العابر» في تاريخها حسب ما يتسرّب إلى ذهن المشاهد الطيّب، من خلال الخطاب الاختزالي المسموم للشريط! كل شيء يوحي بأننا الآن، في موئل الحريّة، أمام «أفضل ما يمكن في أفضل عالم» بتعبير «كانديد» فولتير. ها هي هوليوود تحتفي بنفسها، أما ضحاياها فتجعلهم أبطالها. وبعد البحث، قلّة نادرة من المقالات النقدية في الصحافة العالميّة، أفلتت من الفخ الايديولوجي، ولم تحتفل بـ «ترامبو» كأنشودة حريّة!
نخرج من الفيلم ونحن نفكّر أن المكارثيّة هي روح أميركا، منذ انتصرت على الرفيق ترامبو ورفاقه في الخمسينيات. لم يتغيّر شيء. أميركا «صيد الساحرات» ليست بعيدة عن أميركا «غوانتنامو»! الآلة المالية والتكنولوجيّة الضخمة تستعمل لغسل الأدمغة والقمع والابتزاز بإسم «القيم الأميركية». والتقنيّات القديمة إيّاها في الإقصاء والأبلسة والتكفير، توظّف لصدّ الأفكار والقوى التي تهدد نظام الاستغلال، ونزعة الهيمنة على العالم. أما نحن في هذا المقلب من العالم، فورثنا هزيمة دالتون ترامبو وقيمه النبيلة، لذا نستعيد سيرته كأننا نعيش قصّة قهرنا الراهن. نحن مثله ضحايا الأميركا التي لم يكن يريدها.