تستضيف «مهرجانات بيت الدين الدولية» غداً ثلاثياً سورياً في أمسية موسيقية وغنائية متعدّدة النكهات تحت عنوان «أصداء من سوريا». هذا الموعد الذي يأتي في ظلّ الكارثة التي حلت على الجارة الشقيقة، يجمع بين الموسيقى الحديثة مع كنان العظمة والغناء الشرقي الكلاسيكي مع رشا رزق وفولكلور الجزيرة السورية (الحسكة) مع ابراهيم كيفو.
نستهل الحديث عن هذه الأمسية الاستثنائية بالرجوع في الزمن إلى بعض الأمثلة التاريخية لدحض فكرة قد تتكوّن عند البعض في زمن الحرب، وملخّصها: ناس تموت وناس تلهو بالموسيقى والغناء. في الواقع، قاموس الحروب/ الموسيقى حافل لسبب بسيط: الحروب ما انفكت تندلع منذ فجر التاريخ، والموسيقى كالوقت، لا تتوقف عقاربها أبداً. إذاً، القول إنّ سوريا تنزف وشعبها يتألّم وفنّانوها «يتسلّون» هو كلام لا معنى له. أساساً عبارة «تسلية» لا تصلح إطلاقاً لوصف ممارسة الموسيقى أو تلقّيها، بعد الاتفاق على أن ما تقدّمه هيفا وهبي وشركاؤها ليس موسيقى بل «روتانيات». هكذا، فإنّ الموسيقى في الحروب ليست جريمة بل ضرورة. ها هو أسطورة البيانو السوفياتي إميل غيللز يعزف رخمانينوف للطيارين الذين يتوجهون تباعاً إلى طائراتهم الحربية ويحلقون فوقه في طريقهم إلى مواجهة نسور الجو النازية. وها هم كاميكاز اليابان يرتشفون جرعة «ساكيه» وأخرى من تاسعة بيتهوفن كآخر وصية لهم قبل العملية الأخيرة. وها هو المؤلف السوفياتي الكبير شوستاكوفيتش ينكب على كتابة سيمفونيته السابعة قبل أن يرتدي بزة الاطفائيين أثناء حصار لينينغراد، مرّةً لإشعال النفوس المقاوِمة ومرّة لإطفاء الحرائق الناجمة عن حقد هيتلر على المدينة العصيّة.
بالعودة إلى موضوع الأمسية المرتقبة غداً في «بيت الدين»، يمكن القول إنها تأتي في إطار الواقع المستجِد في علاقة سوريا ولبنان فنياً. منذ أشهر، يشكل الأخير ملجأ متعدد الوظائف للسوريين، ومنها وظيفة فسحة التعبير الفنية. أمسية «أصداء من سوريا» هي حلقة في سلسلة التضامن والاحتضان والدعم. أما مضمون اللقاء فيعكس بالحد الأدنى جزءاً من المشهد الموسيقي السوري.
في الجانب الحديث، يقدّم المؤلف وعازف الكلارنيت كنان العظمة مجموعة من المقطوعات الموسيقية ذات الطابع الكلاسيكي المعاصر، بالاشتراك مع فرقته للموسيقى السورية الحديثة والتجريبية. بين الثلاثي الضيف، كنان هو الأكثر تردداً إلى لبنان، إذ سبق أن قدّم العديد من الأمسيات هنا، في أطرٍ مختلفة نظراً لاهتمام العازف البارع بأكثر من نمط في التأليف (شرقي وجاز حديث، موسيقى كلاسيكية معاصرة،...) أو الأداء (أعمال كلاسيكية من باخ إلى القرن العشرين مع اهتمام خاص بالمؤلفين السوريين). في ما خصّ الغناء الشعبي الكلاسيكي، تقدّم المغنية رشا رزق مجموعة من الموشحات والقدود الحلبية، يرافقها تخت شرقي، أي بخلاف ما عرفناها في اللون الغربي من خلال أسطوانة «بيتنا» مع فرقتها «إطار شمع». أخيراً، لمحبي فولكلور الجزيرة السورية أو للراغبين باكتشافه، يحيي الفنان ابراهيم كيفو برنامجاً شاملاً يتألف من ست فقرات (راجع الإطار)، يعكس من خلالها الغناء الإثني لتلك المنطقة التي شهدت أعرق وأقدم الحضارات.
مئاف آلاف السوريين نزحوا إلى لبنان هرباً من فوّهتيْ جحيم. بعضهم يبيت لياليه في العراء ويمضي نهاراته في البحث عن كرامة العيش، وبعضهم يطعم مصروفه اليومي من وقودٍ لسيارته الفخمة، عائلة بأكملها على مدى شهر. من منهم يستطيع شراء بطاقة لهذا الأمسية ومن منهم يستأهل حضورها؟ أمور كثيرة يبدو منطقها معكوساً في هذه الحياة!

«أصداء من سوريا ــ حيّ على الياسمين»: 21:00 مساء غد ــ «مهرجانات بيت الدين» ــ للاستعلام: 01/373430



سفير التراث

تبدو مشاركة كنان العظمة ورشا رزق في هذه الأمسية مألوفةً بالمقارنة مع برنامج الموسيقي والمغني ابراهيم كيفو. مساهمته في الأمسية تتألف من ست فقرات: الآشورية، السريانية، العربية، الكردية، الأرمنية والبدوية. يتألف كل منها من أعمال غنائية (مواويل وألحان دينية وأغانٍ شعبية معظمها من الفولكلور وبعضها من تأليفه) تمثل موسيقى هذه الاثنيات وتقاليدها. كل هذا اجتمع في الجزيرة السورية وكيفو هو سفيرها من دون منازع، إذ يعزف خمس آلات وترية تراثية يتناسب كل منها مع اللون الذي سيؤديه ويرافقه عمران عدرا (قانون)، فرج درويش (كمان)، حنا أسيو (إيقاع) وآري سرحان (بزق).