السرد هو أساس النصوص الشعرية في مجموعة «تلك الابتسامة... ذلك القلب» (راية للنشر ـــ حيفا)، وهو الثاني لمايا أبو الحيّات بعد «ما قالته فيه» (2007) التي صدرت بعد باكورتها الروائية «حبات السكّر» (2004). لعل معلومة كهذه تبرّر حضور السرد ومشتقاته في الشعر الذي نقرأه، ونجد له صلاتٍ قوية مع ما سُمّي شعر التفاصيل ولغة الحياة اليومية، وهو ما بات صفة عامة لما تكتبه الأسماء الجديدة.
لا نبحث هنا عن سبب أو تأويل نهائي لسردية هذا الشعر، بل لنقول إن الشعرية تتأجل غالباً إلى خاتمة القصيدة في هذا النوع من الكتابة، وإن الكثير من هذه الشعرية مُنجز بالنثر أو بنثر النثر أحياناً. يتحول هذا النثر سرداً قصصياً في بعض القصائد. هناك دوماً حكاية أو شذراتٌ منها تفضّل الشاعرة (والروائية) الفلسطينية أن تطلّ عليها من زاوية خاصة. حكايات شخصية وحوادث واقعية أو متخيّلة تختلط بالمناخ العام المفتوح على اليوميات الفلسطينية وحواجز الاحتلال والحب والذاكرة العائلية. الشعر هو استثمار شخصي في هذه الموضوعات والمشهديات الخاصة والمشتركة، والسعي إلى نقل عدوى ذلك إلى القارئ. يحدث ذلك بطريقة مكثفة في قصيدة «أنا»: «ذرة غبار أنا/ بخيبة نافذة مهجورة/ ورقة جعلكتها أيدي الأطفال/ في انتظار أقرب سلة/ ريشة طائر نتفتها قطة متوحشة/ في محاولة القنص/ علبة ماكنتوش فارغة/ ستمتلئ بعد قليل بالخيوط والإبر/ مريول مدرسة في إجازة صيف/ صرصور مبطوح على ظهره/ في انتظار المكنسة». الوحشة المنبعثة من هذه الصور لا تصرف نظرنا عن التقنيات المبذولة في إنجازها، حيث الرغبة في تمريغ الذات أو تقديمها بطريقة غير تقليدية هو جزء من طموح الكتابة، وحيث تستطيع هذه الذات أن تقول: «أنزع العلكة من أسفل حذائي وقلبي»، وأن يجرحها الحب، وتقول: «لا يهم أن تحبني/ من قال إن هناك شيئاً من هذا القبيل»، وأن تتخيل نفسها ««حزينة كحبة مشمش/ لم تصل فمكْ»، وأن تفشل في محاولاتها كي تشبه الجميع: «لم تنفعني المساحيق ولا الابتسامات الخضراء لأشبهكم». إنها المرأة ذاتها التي تكتب في قصيدة أخرى: «لا أعرف شيئاً عن الثورة/ لكن صاحب الصالون الذي يلعب بشعري كما يريد/ والذي يسكن القدس مثلي بتصريح/ والذي يمرّ على حاجز قلنديا/ ويلعنه مرتين في اليوم/ مثلي تماماً/ قال لي وهو يلعب بشعري/ إن إسرائيل العاهرة/ لا تسمح بضرب البنات لتأديبهن/ قال لي: لا بد من إعلان الثورة/ لا أعرف شيئاً عن الثورة/ لكني غاضبة من صاحب الصالون». أحياناً يعلو هذا «المزاج الفلسطيني» لغوياً، فتتراءى لنا قافية وإيقاع يذكراننا بنماذج من شعر التفعيلة، فنقرأ سطوراً مثل «لا أحنُّ لشيءٍ/ لا أفق يرتمي فيه حلمي/ لا أَبَدْ/ ولا شيء أبداً/ كأني خُلقتُ الآن/ منذ دقيقتين/ ولم أعرف أحداً/ لا أحنُ إلى أي شيءٍ أتى أو ذَهَبْ/ أنا لا أَحَدْ». كأن السرد الممتدح يتراجع هنا لصالح لغة مختلفة قليلاً، قبل أن يعود إلى نثريته واسترسالاته التي توزِّع الفكرة الشعرية على سطور القصيدة، وتصعّب علينا اقتباس سطور أو صور محددة. وهو ما جعل قراءة المجموعة كلها فكرة ضرورية لخلق انطباع أكثر تماسكاً عنها.