من قرأ رواية محمد الأسعد «أطفال الندى» حين صدرت عن «دار رياض الريّس» (لندن ــ 1990). ويُعيد قراءتها الآن في طبعة ثانية عن «دار الفيل» (القدس ــ 2013)، سيعرف أن نشرها للمرة الأولى في فلسطين هو خطوة ضرورية. هناك ثراء شديد في هذا العمل الأدبي. ليس في عدد حبكاته وقصصه الفرعية التي تجدل قصة واحدة كبرى، ولا في تعدد الأماكن التي يطير ويحط أبطالها فيها. إنّها غنية بسبب طبقات الكتابة المركّبة فيها. هي قصة تهجير قرية أمّ الزينات (السفح الجنوبي من جبل الكرمل)، أو ذكرى تهجير أمّ الزينات، أو محاولات لاستعادة ما حدث على لسان طفل الندى الذي يحاول استنطاق الأهل والمعارف والوثائق والكتب، وكلّ ما يمكن أنّ يضيف صفاً من الخيوط لهذا النسيج. في هذا السياق، ربما تكون «أطفال الندى» العمل الأدبي الفلسطيني والعربي الأوضح في تناوله للنكبة بأدواتٍ تتجاوز المألوف. صورُ النكبة وتجسيداتها المفهومية والبصرية معروفة: صورة اللاجئين، صور الصبار، صور الجدران الباقية.

لكنّ «أطفال الندى» لا تكتفي بسرديةٍ تقتصر على هذا المألوف بين مزدوجين، هذا المألوف القاسي والنازف وفي الوقت نفسه، لا تهمل الرواية شيئاً من كلّ هذا. الكاتبُ لا يكتفي بتلك الصور، لأن التاريخ لديه يتجاوز الموسوعات ويتجاوز الأرشيف والوثائق. هذه المصادر يمكن القول إنّها حجّرت أو حنّطت ما حدث لأن تاريخ هذه النكبة في أمّ الزينات وشقيقاتها هو حشدٌ هائل من القصص والمواجع والحنين والغضب والنقمة والحلم وانكساره والإحباط والأمل. تاريخ النكبة هو تاريخ شخوصها، تاريخ أفرادها، تاريخ أساطيرها بل حتى غباوات ومكامن ضعف أهلها الى جانب بطولاتهم الصغيرة والكبيرة. وهكذا فإنّ التاريخ الذي لا يشمل ذكريات الوالدة، تلك الذكريات التي لا تسخو بها لقسوة ما مرّ عليها، هو تاريخ منقوص، وربما مشوّه.
كأنّ الأسعد رمى حجراً في ماءٍ راكد، فراحت الحلقاتُ تنبثق وتتسع. حلقاتٌ لا تبدأ ولا تنتهي بالحدث القاصم عام 1948 لاختزال فلسطين والفلسطيني فيه. تتسع دوائرُ حجره أو ربما يمكن القول يتسع الصدى الصامت لرشّةِ الندى على الغابة الحجرية، فيتصل تاريخ أم الزينات وتاريخ الكرمل وتاريخ فلسطين بما يتجاوز هذا الراهن السياسي. يتصل الأمر بشيء ربما هو الحضارة، أو المكان أو الوطن بمفهومه الأقوى. وطنٌ لا تعرّفه الحدود وإنما الحياة التي تفاعلت وتتفاعل فيه. تتسع حلقاتُ الماء والصدى الصامت حتى استعادة كنعان وبعلٍ وحشدٍ من السنوات والعقود والقرون التي تعجّ بالوجود والحياة، وتعيد تعريف وجود ومعنى شخصيات وتفاصيل الرواية والقرية والجبل والبلد كلّه.
ولعل أجمل ما في نسيج هذه الرواية هو ابتعادها عن «وحدانية» اللون، ووحدانية الصياغة، ووحدانية طابع الفكرة ورائحة المعلومة ومذاق التفصيل، تقتبس ببعض التصرّف نصاً تاريخياً أو مقولة أو تصريحاً بشيء من الجفاف حيناً. وفي الوقت نفسه، تستخدم فكرة الغولة وحكاية جبينة والأقزام والعمالقة والضباع في المحاولة اللانهائية للإحاطة بالرواية، روايتنا جميعاً.
سيعترف طفلُ الندى لنا لاحقاً: «لم أعايش ما حدث، لا أتذكره على جلدي، ولا أملك رائحة له». لذلك سيسمح لنفسه بالعبث بمصائر الشخصيات، وقد يعطيها من عنده تفاصيل متخيلة، ويسيّرها في دروب لم تطأها أقدامها في جبل الكرمل.
هكذا، فإن حياة ومصير حياة الخال والشيخ حمزة وصديقنا التركي تراوح بين التوثيقي والمتخيّل. هذا المتخيل الذي يخلق رابطاً إيحائياً بين الشيخ حمزة والإله الكنعاني بعل. كأن الكاتب يقرر مواصلة مد خيط الخصوبة رغم انقطاع خيط التاريخ الراهن بعنف لا تزال الجراح تنزف بسببه، إن لم يكن في الجسد فقط، ففي الوعي والذاكرة والشعور. استحضار كنعان هو إحدى أقوى مقولات العمل. إن اللجوء إلى التاريخ السحيق والأسطورة في «أطفال الندى» ليس تهرباً من الواقع. الأسطورة هي الخلفية الشاسعة الممتدة من المشرق الى المغرب لتضمّ معاً كلَّ ما حدث في وقت واحد. لا شيء انتهى فعلاً، بل كأن كلَّ تفصيل يقف منتظراً لكي ينبت. يقف في انتظار كاتبٍ يقرر دحرجة البذرة الصلبة لتنفلق وتنبثق وتنمو.
هكذا، تنبش الرواية الذاكرة وتستنطقها، وتقدّم قراءة وكتابة مختلفة للتاريخ، ليس من حيث تفاصيل الحدث، بل من حيث نوع الوعي ودرجته وزاوية البصر والبصيرة التي نطلّ منها على الذاكرة... وبعينَي طفل مصنوع من الندى بالذات.