ينبش محمد غازي الأخرس (1967) في كتابه «كتاب المكَاريد ـــ حكايات من سرداب المجتمع العراقي» (دار التنوير ــ بيروت) الحكايات المهملة للقاع العراقي، ويمنح الفئات المهمّشة فرصة لم تكن متاحة قبلاً، لسرد مدوّنة البؤس والتيه والإهمال؛ إذ ظلت رواية هؤلاء البشر المنسيين، والسيئي الحظ، في الظل. لكن ما معنى المكَاريد؟ يجيب: «المكَرود، من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وليس لديه سوى انتظار فرج قد لا يأتي ومنقذ ربما تأخر». ريفيون أتوا من الأطراف إلى المركز محمولين على أحلام غامضة بالعيش، وإذا بهم مجرد حطب لصناعة تاريخ الآخرين؛ فهم وقود التظاهرات، وحشود الانتخابات، وأصحاب الأعمال الوضيعة، فكان أن جسّد أبناء تلك الجماعة أنموذجاً حيّاً لفكرة الإقصاء والعيش خارج المتن، وها هو واحد منهم يحاول سرد حكايتهم المؤجّلة، ونسف حيثيات السردية الرسمية التي لطالما نظرت إليهم بوصفهم «الدمامل التي نبتت فجأة على وجه بغداد القديم وحوّلته إلى قيح محض وخلخلت تناسقه القديم».
يتوغل الباحث العراقي في سراديب وأزقة ومستنقعات «مدينة الثورة» التي أنشأها عبد الكريم قاسم في أواخر الخمسينيات لاستيعاب جموع الريفيين المهاجرين من قرى الجنوب إلى بغداد، ومحاولة دمجهم في المتن، لكن هذا الاندماج، وفقاً لما يقوله الكاتب «ظلّ على أضيق نطاق»؛ إذ تمترس كل طرف براياته الطائفية، وبرز تناقض صريح بين هوية الفرد الاجتماعي، وهوية ما بعد الدولة، أو الثقافة العالمة، والثقافة الشعبية. لنقل إنّه عراق الهويات المتصارعة، وصعوبة مزج رايات الطوائف والعلم الوطني على سطحٍ واحد، كما ينفي بأنّ الحديث عن المجتمع العراقي بوصفه طوائف ومللاً هو نوع من أنواع الخيانة الكبرى لهوية رمزية صُنّعت منذ العشرينيات وجاهدت لتذويب جميع الهويات الفرعية، إنما محاولة لتظهير الصورة المضمرة لما كان يمور تحت السطح.
لا يتردد صاحب «خريف المثقف في العراق» في طرح أكثر الأسئلة إشكالية في المجتمع العراقي، في مقدمها التجاذبات الطائفية، ومعنى أن تكون شيعياً وشيوعياً، أو سنياً وقومياً في آنٍ واحد، قبل أن يعود الجميع إلى حضن العشيرة، أو الطائفة، ذلك أنّ «الطائفية ليست ديناً ليتحرّر منها الملحدون والعلمانيون. إنها مخيال عريض انبثق مع تعريب العراق واستمر مع تسنينه». ويتساءل: «لماذا ركن الشيعة إلى أفكار اليسار، فيما ركن السّنة إلى الأفكار القومية؟». الإجابة تكمن في أنّ «أنساقاً قديمة ومنظومات فكر مستقرة منذ قرون عبر ثقافات شعبية كانت استنفرت آلياتها لابتلاع ما يفد من الثقافة العالمة ومن ثم تعريقها بطريقة تناسب تعدّدية المجتمع العراقي واختلاف جماعاته».
هكذا يلج محمد غازي الأخرس إلى سرداب المجتمع العراقي على خطى الكاتب والمؤرخ وعالم الاجتماع علي الوردي حيث «الخردة الشعبية تحتاج من ينفض الغبار عنها». تنطوي أبحاث الكتاب على جوانب من السيرة الذاتية، وسيرة الجموع من «المكَرودين» في وقائع عاشها الأخرس، وصمت عنها طويلاً، قبل أن يقرر إزاحة اللثام عنها، بنظرة أنثروبولوجية عميقة تتكئ على سرديات ما بعد الحداثة في فحص مفردات وطقوس وأغنيات شعبية، كانت الحامل لثقافة موازية. وها هي تقتحم المتن من دون مواربة، لعلها سيرة الحرمان الحياتي من جهة، وسيرة النص المحرّم من جهةٍ ثانية. سيرة الفتى الذي وجد نفسه وسط الجموع يحمل راية عشيرته في مأتم زعيم قبلي، وها هو اليوم يرى بعينيه سيارة شرطة رسمية ترفرف فوقها راية خضراء في مناسبة ذكرى عاشوراء، على خلفية «لطمية كربلائية» تنطلق من آلة تسجيل، فيما يندحر العلم العراقي الرسمي لمصلحة رايات الهويات الفرعية، إلى الدرجة التي تسمح لليبرالي القادم من أميركا بأن «يلطم في حشد شعبي». وإذا بالحشود تركن إلى راية الطائفة وتنبذ راية الدولة في عراق ما بعد صدام حسين. المحظورات القديمة في جمهورية الخوف، عادت على نحوٍ آخر، ذلك أن من أتوا بعد الطاغية أعاد إنتاجه ببربرية أعمق، «إنهم كائناتك، صنع يديك، فيض خوفك وعدلك، نتاج قسوتك ورحمتك. بعدك انفرط الخوف وساح في الشوارع بهيئة دم مبارك» يقول. التهكّم بأبناء الجنوب لجهة الزي أو اللهجة أو السلوك، تسلّل إلى الكتابة العراقية المبكرة بشذرات متفرّقة. لكنه اليوم يتخذ طابعاً أقسى من طريق الدعوة إلى استعادة حضريّة بغداد القديمة والتخلّص من أسمال الغرباء كنص ثقافي ومجتمعي، وقد تجاهل هؤلاء ــ كما يشير الكاتب ــ إلى أن بغداد اليوم مجرد حاضنة عشائرية لمختلف الطوائف، بمن فيهم «الشروكَيين». ولم يعد مستغرباً أن ينصب أحدهم سرادق عزاء وسط الشارع، ويضع حواجز لمنع مرور السيارات، فالحمولة العشائرية هي التي فرضت سطوتها على سلوكيات المدينة، لا الدولة. وتالياً، إنّ كل محاولات الحداثة لإزاحة الانتماء إلى الجماعة لمصلحة الدولة القومية باءت بالفشل. المنظومة العشائرية في المجتمع العراقي «لا تختلف عن أي أيديولوجيا أخرى». كذلك فإنّ أفكار ساطع الحصري في القومية لا تختلف واقعياً عن مفهوم القبيلة؛ إذ «لا أفراد في العشائر مثلما لا أفراد في الأيديولوجيات». ويؤكد الباحث: «لن تقوم للعراق قائمة ما لم يولد الأفراد وتمت الأيديولوجيات».
في فضاء آخر، يستعيد محمد غازي الأخرس سير مطربين ريفيين لم يتمكنوا من إيصال أصواتهم الشجية إلى خارج أسوار مدينتهم المغلقة. عمل أحدهم في البناء، وآخر سائقاً في الجيش، وآخر نادلاً، لكن هذه الثقافة الريفية تمكنت على نحوٍ تراكمي من إحداث خلخلة ثقافية في بنية العاصمة مادياً وروحياً، تمثّلت في طقوس العرس والرقص والغناء. ويلتفت في مبحثٍ آخر إلى عنف اللغة بوصفها مرجعية لعنف العيش، ففكرة «السحل والذبح وتقطيع الأوصال كانت قد تجسّدت أولاً في اللغة ومن ثم ظهرت دامية على أيدينا وحافّات سيوفنا». هنا يحفر في بنية اللهجات وحمولتها العنفية باختيار مفردات تتعلق بالقتل والموت والحب والجسد وتجلياتها في المنطوق اليومي وانخراطها في العولمة.