يُعد يوسف باسيل شُلحت (1919 ـــ 1994) من أهم البحّاثة الذين درسوا الظاهرة الدينية عند العرب قبل الإسلام وبعده. انكبّ طوال حياته العلمية التي أمضاها في فرنسا على وضع عدد من المؤلفات المتميزة في الحقلين الإثنولوجي والأنثروبولوجي. بعد مرور أكثر من 50 عاماً على أطروحته Le sacrifice chez les Arabes التي نال على أساسها شهادة الدكتوراه تحت إشراف مارسيل غريول، ها هي تُنقل إلى العربية تحت عنوان «الأضاحي عند العرب: أبحاث حول تطور شعائر الأضاحي طبيعتها وظيفتها في غرب الجزيرة العربية» (دار الطليعة ـ 2013) بمجهود فردي قام به البروفيسور خليل أحمد خليل الذي سبق له تعريب ثلاثة كتب للباحث السوري المولود في حلب. ينطلق شلحت في كتابه المهم من الإسلام إلى الجاهلية المتأخرة، محدداً عرب الحجاز، مهد الإسلام، مجال دراسته. يستخدم المنهج الفيلولوجي (فقه اللغة) حين لا تعينه المصادر التي استند إليها مثل القرآن والحديث النبوي وكتب الفقه الإسلامي والآداب الإثنولوجية، لكشف المسكوت عنه في ديانة العرب البدائية قبل الرسالة التوحيدية وبعدها.
هذا المسار العكسي تناول الأضحية المؤسلمة بنحو أساسي عند المسلمين. قبل أن يدرس هذا الموضوع المهم، يصنّف الأضاحي بتنوعها واختلافها؛ إذ راوحت بين أضاحٍ دامية وغير دامية: قربانية/إيلافية، تكفيرية، وأضاحٍ سلبية وإيجابية، وذاتية وموضوعية، ودورية وافتراضية تبعاً لطبيعتها.
بغية توضيح التصنيفات التي وضعها، قسّم الأضاحي إلى تلك المحددة في الزمن «الضحية»، والمحددة في الزمان والمكان: هَدْي القربان؛ والمحددة في المكان؛ وغير المحددة أي المنذورة والمقدمة حسب الظروف.
تحت عنوان «مكانةُ الأضحية في الحجِّ إلى مكَّة»، يسلط صاحب «بُنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده» الضوء على شعائر وطقوس الحجِّ لدى المسلمين إثر إدخال الإصلاح المحمدي إليها. يفرق بين الهدْي (هذا المصطلح مشتق من الجذر هَدَيَ الذي يعني أرشد دل على الصراط المستقيم من جهة وقدم أي أهدى) والضحية. الأولى هي الضحية المنحورة في مكة خلال الحج، والثانية تدل على أضاحي يوم النحر المذبوحة في أماكن أخرى غير مِنى. من المعروف أن الحجّ إلى مكة كان سائداً قبل الإسلام، وقد أجرى النبي إصلاحات أضفت عليه طابعاً نقياً وروحياً، فقلب كل الطقس الشعائري القديم وأبقى على شعيرة الأضحية.
يعالج صاحب «مدخل إلى علم اجتماع الإسلام» أضاحي المناسبات التي سادت عند العرب قبل الإسلام؛ هؤلاء (العرب) انشغلوا بإرضاء القوى المقدسة، فقدموا لها الذبائح لإرضاء الآلهة (الأصنام) ضمن فضاء جغرافي صحراوي أقلقهم ودفع بهم إلى ممارسات وثنية أضحوية دموية، اتسمت بالعنف الشديد، وترافقت مع طقوس أخرى اتصفت بطابعها القرباني اللادموي.
ثمة جملة من الحقائق يكشف عنها شلحت: لقد كان سائداً عند العرب الجاهليين تقديم الأضاحي البشرية، ولا سيما الولد البكر (الأنثى والذكر)، رغم أن هذه الأضحية مورست على صعيد أقل مما كانت عليه لدى الشعوب السامية الأخرى. الأولاد المقتولون كانوا يُؤكلون، وكان ذبح الأطفال يوضع في سياق الجزية الدموية الواجبة للقوى المقدسة التي استُبدلت مع الإسلام بأضحية الشعر «العقيقة» أي حلق شعر المولود الجديد وإعطائه اسماً.
يربط شلحت بين الثأر الهادف إلى الانتقام من قتل فرد من أفراد العشيرة والطابع الديني واعتبره مؤشراً على عبادة الأجداد «بغية توفير راحة أخيرة للميت». كان العربي قبل الإسلام يظن أن الجن هي أهل الأرض، فهي المالك الحقيقي للأماكن، لذا عليه تجنبها واتقاء شرها. مارس شعائر الاستسقاء وظن أن الجفاف هو أسوأ الرزايا. وفي سبيل استنجاد هطل المطر، كان الوثنيون يقدمون القرابين الدموية لأصنامهم. أما الإسلام فقد جبّ كل هذه الطقوس واستبدلها بالصلاة العادية.
ارتبط الدم عند العربي قبل الإسلام بقيمة سحرية. الأضحية على أنواعها كانت تُستعمل كضمانة صدّ المقدس «فهو يرى هذا المقدس تقريباً في كل مكان: في المجهول الذي يُراوده في العزلات التي تحزنه، وفي العناصر التي تقضُّ مضجعه وهو يتجلى له في الآلهات والأصنام في الجان والأرواح».
إلى جانب الأضاحي الدموية، خصّص العرب قرابين لآلهتهم فقدموا لها البواكير من المحاصيل الزراعية والماشية. يخلص شلحت إلى أنّ هذه التقديمات غير الدموية لدى الجاهليين تدخل في إطار الدَّيْن الذي يجب على الواهب منحه إلى الله الذي عدّوه شريكاً واعترفوا بحقٍّ له في الحصاد بالتكافل مع قوى أخرى.
يجري صاحب «نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني» الكثير من المقارنات بين الطقوس الدينية التي تبناها العربي الجاهلي والقواعد الإصلاحية الجديدة التي أرساها الإسلام، سواء في شعائر الحج والعمرة، أو في قضايا تعبدية أخرى قام النبي بمنع جزء كبير منها، وأضفى على بعضها بعداً روحياً ورمزياً إيمانياً.
يتطرق شلحت إلى قضية مهمة بعد دراسته الفيلولوجية لمسألتي الوسم والوشم، ويفترض أنّ العرب في الجاهلية كانوا يقدمون إلى جانب إراقة الخمور، عذراء شابة إلى الحَرم لأجل البغاء المقدس «مفتدية بذلك الشابات والشبان البالغين سن الزواج، وعندها كان يُشرع بوسمها». من هنا، هذا الترابط بين المومسات والموسومات اللواتي جرى وسمهن لتمييزهن من الحرائر، وأطلق عليهن اسم «نساء الأعلام». وكان الوشم يُنقش على الذراعين والنهدين وبالأخص على العجيزات، لذا لعن النبي الواشمة والموشومة.
خلاصة شلحت تفيد بأنّ البغاء المقدس في المعبد (الكعبة) عرفه العرب كما عرفته الحضارة البابلية. خلال الطواف أو الحج الجاهلي الذي كان يجري بين إيساف ونائلة، كانت الطقوس تختتم بوطء شعائري.
قدم يوسف شلحت مادة جديدة لتاريخ قديم مسكوت عنه. الأطروحة كثيفة جداً بالمعطيات والمعلومات والكشوفات العلمية. استطاع عبر المناهج المستخدمة، ومنها منهج التحليل التوليدي والشواهد الفيلولوجية، الخروج بخلاصات جديدة لمرحلة تاريخية بائدة ومجهولة لنا. المستفاد أنّه في كتابه هذا وكتبه السابقة، يتناول المقدس في حقلين تاريخيين متمايزين: الجاهلية والإسلام، ويرصد تجلياته المجتمعية والدينية عبر الحياد العلمي.
سعى شلحت بأبحاثه إلى تأسيس علم اجتماع ديني عربي خارج إطار الايديولوجيات والمحظورات. لكن المؤسف أنّ هذا الإثنولوجي الذي يستشهد بكتبه الباحثون الغربيون، لا يلقى الاهتمام الكافي في الجامعات والمعاهد العربية، ولا عند بعض الكتّاب العرب المولجين في مقاربة الظواهر التي تنتجها الأديان.