في تقديمه لأحد معارض حمود شنتوت (1956) المبكرة، كتب الراحل الكبير فاتح المدرس أنه «شاعرٌ تشكيلي». الشعرية التي امتدحها المدرس ظلت حاضرة منذ ذلك الوقت في تجربة الرسام السوري، الذي أدهش الجمهور والنقاد بلوحاته التي ضمت أشخاصاً وحيدين ومحكومين بالتموضع في مساحة ضيقة داخل فضاء اللوحة الشاسع والموحش.
مع مرور الزمن وتعدد المعارض، تحوّلت عزلة هؤلاء البشر إلى ماركة أو فن شخصي. رسم شنتوت موضوعات ومشهديات أخرى طبعاً، لكن «تلك العزلة الباهرة»، إذا استعرنا عنوان رواية الطاهر بن جلون، وجدت تأويلات وترجمات لها حتى في أعمال لا يظهر فيها أشخاصه الوحيدون. ربما تكون قد انحسرت هذه الممارسة في بعض الفترات، حين رسم جمادات وطبيعة صامتة. وربما تكون قد ذابت في مناخات أخرى، حين رسم بورتريهات ونساءً ورجالاً في حالة ملائكية. وربما اكتفت فقط بتقاسم لعبة اللون في أعمال أخرى ظهرت فيها مشهديات وبيوت ريفية، ولكن ذلك كان أشبه بمحاولات متكررة للفرار من تلك الدمغة التي التصقت به في البدايات. كأنّ الجوهر المكثف لتلك الدمغة تفتّت وتوزع على ممارسات الرسام الأخرى، وباتت كافية لمعرفة توقيعه وأسلوبه بصرف النظر عن كثافة حضورها أو احتجابها الجزئي. ما ظهر في معارضه السابقة لا يزال مستمراً في معرضه الحالي الذي تحتضنه صالة The Venue في وسط بيروت. ها هو الشخص النحيل ذاته يواصل وحدته في عدد غير قليل من لوحات المعرض، بينما تتوزع موضوعات أخرى (سبق أن رُسمت) في اللوحات الباقية. أحياناً يكون الشخص هو الفنان نفسه كما في لوحات عديدة بعنوان «الفنان»، أو مجرد شخص ممحوّ الملامح ينتظر تحت شجرة ضخمة كما في لوحة «شجرة النارنج»، أو امرأة (نحيلة ووحيدة أيضاً) تنتظر تحت «قوس قزح» في لوحة بالعنوان نفسه، أو قرب جدار كما في لوحة «باب شرقي»، أو قرب نافذة ضخمة كما في «الزمن الجميل 2». ضآلة الأجساد تترجم فلسفة «الإنسان الصغير» وحياته المطحونة في الواقع، لكنها تأويلٌ وجودي وتصوفي لمقولة ابن عربي «وفيكَ انطوى العالم الأكبرُ»، بحسب لوحة تحمل هذا العنوان. التأويل الثاني يبدو أقرب إلى رؤية الرسام الذي يُعلي من شأن الخلفية الشعرية ومناخاتها الحُلُمية على حساب خشونة الواقع اليومي وضراوة الحياة الحديثة. يتضاعف ذلك أكثر في لوحات أخرى تحتلها تشخيصاتٌ تسبح في غلالات لونية وأثيرية كما في لوحات: «الأمومة»، و«أميرة من ألف ليلة وليلة»، و«الأميرة الحالمة»، أو نساء ورجال تنبت لهم أجنحة ملائكية كما في أكثر من لوحة بعنوان «حالة حب».
الضوء والظل اللذان هما بطلا هذه الأعمال كلّها، يعززان الانطباعات الشاعرية والحُلمية التي باتت جزءاً من هوية الرسام وفكرته عن اللوحة. كأنّ ما نراه سبق لنا أن رأيناه. كأنّ شنتوت حفر طوال الوقت في الموضع نفسه. كأنه استساغ الدهشة التي صنعها في البداية، فراح يكرر الموضوعات ذاتها المنجزة بالخلطة اللونية ذاتها التي تجعل الضوء أول ما نراه في أعماله. لا يستعجلنا هذا الانطباع على إطلاق حكم نهائي، لكن المعرض يبدو مثل طبعة غير منقحة وغير مزيدة لتجربته. نستطيع الحديث مطولاً عن براعة الرسام ومهاراته التقنية، إلا أننا لا نعرف لِمَ يبدو ذلك نوعاً من مجاراة الذوق السائد أكثر من كونه تحدياً جديداً وصعباً يخوضه الرسام مع نبرته نفسها. كأن شنتوت عثر على صيغة تكفل له تصريف مزاجه الشعري الحالم، وتكفل «تصريف» لوحاته لدى الجمهور العام، والراغبين في اقتناء لوحة يمكنهم التلذذ لاحقاً بإعجازها اللوني والتقني، وهي معلقة في منازلهم.

معرض حمود شنتوت: حتى نهاية 30 حزيران (يونيو) الحالي ــ صالة The Venue (أسواق بيروت).
للاستعلام: 01/980650




الحفاظ على قواعد اللعبة

ينتمي حمود شنتوت إلى الجيل الأوسط في المحترف السوري. الرسام الذي حاز درجات عالية في دراسته في دمشق، وفي باريس، ظل مخلصاً لفكرة اللوحة كما أنجزها الرواد المؤسسون. مارس التجريب داخل تجربته أكثر من تورطه في التجريب الذي خاضته الأسماء الشابة، وطُرحت فيه أسئلة شائكة حول هوية اللوحة السورية، وضرورة انفتاحها على سوق الفن العالمي. تجريبٌ لم يخلُ من تشابه وركاكة تسويقية وقعت فيها بعض هذه الأسماء، إلا أن ذلك لا يبرر بقاء أحد أبرز ممثلي الجيل الأسبق بعيداً عما يحدث حالياً. بطريقة ما، يبدو شنتوت متصالحاً مع نبرته، ومستعداً لإنجاز اللوحة نفسها طالما أنها مطلوبة في السوق، بدلاً من الانخراط في تجريب مختلف يفرض عليه تغيير قواعد اللعبة.