مَن يسكن دمشق، يصعب عليه أن يستغني عن سوق الحميدية، ذلك السوق الشهير بتاريخه العريق وسقفه الذي ينسكب منه الضوء من خلال ثقوب خلّفها رصاص المستعمر الفرنسي. كذلك هي حال السائح الذي كان يقصد أقدم عاصمة في العالم. الأرجح أن زيارته لعاصمة الياسمين ستمرّ من السوق الطويل الذي يصل قلعة دمشق بـ«مسجد بني أمية الكبير»، وغالباً، ستكون له محطة تستوقفه في منتصف الطريق أمام واحد من أهم معالم هذا السوق: مطعم بوظة بكداش. منذ تأسيسه عام 1895 على يد معلّم البوظة الشامي الراحل محمد حمدي بكداش، كان المحل شاهداً على أحداث تاريخية لاهبة انطلقت من أسواق دمشق الشعبية. لعل أبرزها الإضراب الستيني الذي نفذ عام 1936 بسبب اعتقال بعض قادة «الكتلة الوطنية» آنذاك وإغلاق مكاتبها في دمشق، ما أرغم فرنسا لاحقاً على توقيع «معاهدة الاستقلال». يحتفي «بوظة بكداش» على طريقته بأبرز الشخصيات العامة التي زارته يوماً ما. هكذا، يتباهى أصحاب المحل وهم من عائلة دمشقية معروفة بصور نجوم الزمن الجميل الذين زاروا المكان وتناولوا فيه أكواب البوظة، من دون أن يوفر نجوم اليوم، ومنهم الممثلان المصريان فاروق الفيشاوي وأحمد حلمي والإعلامي اللبناني جورج قرداحي. فيما يحافظ المطعم على فريق من معلمي المهنة القديمة، يعلّق صوراً لبعضهم وهم «يتفنون» في صنع البوظة العربية بالطرق التقليدية. طريقة تعتبر بمثابة تقليد شعبي يتهافت عليه أعداد كبيرة من الزبائن الذين لا بد من أن يضيق بهم المكان ليل نهار. ويزداد توافد هؤلاء في هذا الوقت من كل سنة لاقتراب شهر الصوم قبل أن يحلّ العيد. لكن كل ذلك صار ماضياً يتذكره السوريون ومحبو هذه المدينة بطريقة ممزوجة بالحنين بعدما غرقت العاصمة بدماء الأبرياء. انتهى عصر السياحة، كأنّ بدمشق اليوم تلبس ثوب الحداد على ماضيها العريق، وتغلق بواباتها السبع قبل حلول الظلام. ليس هناك ازدحام ولا طقوس احتفالية مع اقتراب رمضان، ولا أضواء ملوّنة تزيّن ليل الأسواق الشعبية، حتى سوق الحميدية صار يقفل باكراً. وفيما لا يزال «بوظة بكداش» يفتح أبوابه أمام عدد قليل من زبائنه قياساً بمواسم ماضية، ارتأى القائمون على المحلّ نقله إلى الأردن. في 2 أيار (مايو) الماضي، ولد الفرع الجديد مطعَّماً بإدارة عمانية وفق عقد شراكة مع عائلة بكداش، لكن على الطريقة والشكل الدمشقيين المعروفين. هناك، زارت وكالات الأنباء المكان وأعدت تقاريرها عن طريقة صنع البوظة الشامية، والمراييل البيضاء التي يرتديها العمال، والهاون الخشبي الذي يدق البوظة. يومها، التقت الوكالات بمجموعة من المهجرين واللاجئين السوريين الذين افترشوا أماكن قريبة من محل البوظة بنسخته الأردنية وراحوا يتأملون واجهته من دون أن يغيب الحزن والحنين لمدينتهم عن أحاديثهم. وأفاد أحد مديري الفرع الأردني في حديثه للوكالة الفرنسية بأنّ «بكداش» ما زال يعتمد على الفرع الأساسي في سوق الحميدية، حيث يصنع جزءاً كبيراً من البوظة، لترسل إلى فرع عمّان الذي يعمل فيه شباب دمشقيون في محاولة للحفاظ على طقوس طبق المثلجات الشهير.