أمس، أجمع الكلّ على أنّه مشهد من مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 أو بداية الشرارة لها: عائلات هلعة تنزح من عبرا ومدينة صيدا (جنوب لبنان)، هرباً من الموت المحتم والاشتباكات التي افتعلها الشيخ أحمد الأسير حين هاجم حاجزاً للجيش اللبناني، مستهدفاً ستة عسكريين منه قضوا غدراً.
الهجوم على الجيش بالحديد والنار وسّع رقعة الاشتباكات في عبرا، وتحديداً في محيط «مسجد بلال بن رباح» مكان لجوء القاتلين الفارين إلى حين فرار رأسهم المدّبر الأسير عبر منافذ أخرى من البلدة. كل هذه الجرائم ارتُكبت وسط صمت رسمي مريب. لكنّ المسؤولين حفظوا ماء وجههم ببيانات منددة بعد ساعات طويلة من إهراق دم الجيش على الأرض. إعلامياً، واكبت القنوات المحلية الحدث وفتحت الهواء للتغطية الحيّة المباشرة مع استضافتها وجوهاً سياسية ومحللين وساسة دانوا ما يحصل، فيما بقيت كل من «المستقبل» وmtv تغرّدان خارج السرب مع تعمدهما تغييب الحدث، ما خلا الشريط الإخباري في أسفل شاشتيهما وتقطيع طفيف في البرمجة التي راوحت بين عرض الوثائقي على الشاشة الزرقاء وعرض القامات وفساتين الفنانات على السجادة الحمراء في الـ murex d›or. لعلّ المشهد الأخير يعكس كل هذا العبث الذي يعيشه البلد.
وخلال النشرات الإخبارية أمس، حيث عرضت كل قناة موقفها السياسي مما جرى، لم يستطع هول الجريمة التي حدثت توحيد الإدانة في وجه المعتدي والقاتل. راوغت mtv واختبأت خلف بيان قيادة الجيش وموقف رئيس الجمهورية ولم تسمِّ الجاني باسمه.
أكثر من ذلك، ربطت شاشة المرّ الحدث بالصواريخ التي كانت معدّة للإطلاق في منطقة بلونة ومشاركة «حزب الله» في معارك سوريا.
وفي تمويه واضح لما جرى وتجييره في المنحى السياسي، أكمل مراسلها حسين خريس الموجود في صيدا ارتباكه، واصفاً العسكريين المغدورين بـ«العناصر» بدلاً من الشهداء.
أما قناة «المستقبل»، فقد رأت في الجريمة افتعالاً للفتنة من خلال قتل العسكريين بدم بارد، وراحت تهلّل لموقف النائبة بهية الحريري. كذلك، ضاعت lbci في الأسئلة التي طرحتها وربطت ما حدث بالإشارة الى عودة الحرب الأهلية بعد مرور 38 عاماً على انطفائها. فيما راحت كل من «المنار» وotv الى تسمية الجاني باسمه والدعوة الى الاقتصاص منه جراء قتله المتعمّد لعناصر الجيش اللبناني ولم توفرا بين طيّات أسطر مقدمتيهما الإخبارية التلميح إلى جهات سياسية رَعَت الظاهرة الأسيرية. بين كل هذه القنوات، تميّزت «الجديد» بموقفها الحاسم والناري من خلال مقدمة متينة طالبت باجتثاث الورم الأسيري.
وللمرة الأولى، سخرت المحطة من موقف بهية الحريري، واصفةً إياها «بالذراع السياسية والقبّة الحديدية» للأسير.
وسط هول الجريمة والدماء السائلة على أرض صيدا، برزت أصوات مدافعة عن المجرم قوامها شيوخ سلفيون من طرابلس، ادّعوا بأنّهم ذاهبون الى التهدئة، وهم لا يفعلون سوى بث المزيد من التحريض كالشيخ سالم الرافعي الذي حرّض على الجيش عبر «المؤسسة اللبنانية للإرسال» حين ادعى بأنّ هناك «ميليشيات» تسانده ضد الأسير. أيضاً، وصف ما حصل بالصراع المذهبي، متّهماً «حزب الله» بقصف «مسجد بن رباح».
أما الشيخ داعي الإسلام الشهال، فقد بثّ سمومه عبر bbc ليقول بأنّ ما يحصل في صيدا هو «مؤامرة على السنة» في لبنان، وحذرّ من تحويل الجيش الى «أداة بيد حزب الله».
التحريض هذا الذي يعدّ جريمة ثانية في حق المؤسسة العسكرية، رافقته سلسلة مواقف برَّرت للمجزرة ودافعت عن الأسير من خلال تحوير ما حصل واتهام «حزب الله» بأنّه المسؤول عن ذلك، بما أنه «تورط في معارك سوريا».
وأبرز هذه الشخصيات رئيس الوزراء السابق سعد الحريري وحفنة من نواب تيار «المستقبل».
بيان الجيش كان واضحاً: إما الوقوف معه وإما مع المحرضين ومفتعلي الفتنة. موقف لم يلق آذاناً صاغية عند بعض هذه الشاشات التي أهملت الحدث لصالح تغطيات أخرى استعراضية ساذجة، كما فعلت mtv مع الـ«موركس دور» وأكملت lbci مع عرضها لـ splash ليلاً، متناسيتين خطورة الموضوع وحساسيته ومعتمدتين سياسة الهروب من الواقع ودفن الرأس في الرمال.
على رغم من أنّ ما رأيناه أمس كان مشهداً أو بروفة من الحرب الأهلية، إلا أنّ الشاشات لم تُجمع على تغطيته بالشكل اللازم.
كانت لحظة مصيرية، لكنّ المحطّات اختارت النأي بنفسها عن الحدث بعدما كانت في الأمس القريب تتهافت على «المهرّج الدموي».