«نار الماء» عنوان معرض تشكيلي لزاد ملتقى (1967) لا دعوة إلى أمسية موسيقية. لعلها مفاجأة لمن لا يعرف أنّ الرسم كان الجانب غير المعلن في تجربة الموسيقي اللبناني المقيم في فرنسا. المفاجأة تتبدد تدريجاً حين نتأمل اللوحات العشر التي تحتضنها «غاليري جانين ربيز». لا يبتعد صاحب ألبوم «أناشيد» في تجريداته عن التجريد الموجود في الموسيقى. كأنّ ما سمعناه في مؤلفاته نجده الآن في طبعة مرئية وملموسة. بدأ ملتقى الرسم مع الموسيقى في الوقت نفسه تقريباً، لكنّ الرسم ظل ممارسة جانبية غير معلنة.

صحيح أنّها واكبت تجربته الموسيقية، لكنها ظلت في الفناء الخلفي لمؤلفاته الموسيقية، أو في «حديقته السرية» بحسب تعبيره هو. توقعاتنا بجرعات زائدة من السرد والثرثرة تصطدم بمزاج مكتوم ومقتضب لا يزال يخدم الرسم كما خدم في الموسيقى.
كأن ملتقى ينقل حيرته في الموسيقى إلى فضاء الرسم، بينما تصبح الألوان تأويلاً آخر للنوتة والكلمة التي غالباً ما تتصل بمعجم صوفي يزيد من تجريديتها. الألوان على أي حال لا تسلك طريقاً تقليدية إلى فضاء اللوحات المنجزة بقياس موحّد تقريباً (150×220). التوضّعات اللونية لا توحي باستعمال الفرشاة أو السكين أو اليد، بقدر ما توحي بأنّها من عمل الزمن أو الطبيعة. إنها توضّعات فعلاً لا مشحات ولطخات يستطيع المتلقي أن يخمّن مزاج الرسام من خلال سُمكها أو رقتها أو درجة العنف فيها.
يستخدم زاد ملتقى ألواحاً سميكة من الورق المقوّى، كي تحتمل كميات الماء والزيت والتربنتين والإكريليك التي يدلقها عليها، ويتركها لتجفّ في بعض المواضع، وتستقبل جولة أخرى من المواد ذاتها في مواضع أخرى.
تناوبُ الجفاف والرطوبة، والفترات الزمنية الفاصلة بينهما، يصنع هذه البقع الأركيولوجية والمساحات الصدئة والأجزاء المتآكلة التي ترسّخ انطباعنا بأن عوامل الزمن هي المسؤولة عما نراه، بينما العتقُ أو التعتيق الذي يطفو على سطوح اللوحات يجعل فكرة الزمن مقنعة أكثر. كأنّ المهارات المبذولة في إنجاز اللوحة تتساوى مع رغبة صاحبها في حجب توقيعه الشخصي عنها. كأنّ الرسم يحظى بمذاق صوفي سبق أن حضر في الموسيقى، وتصبح رغبة الفنان بالتماهي في الوجود الشامل مسألة مساوية لترجمة طاقته وقدراته الفردية. يظهر ذلك في الجمع بين عنصري الحياة (الماء والنار) في عنوان المعرض، ويظهر أكثر في عناوين وتفاصيل اللوحات التي تعكس تأملات كليّة وأنطولوجية في حركة الكون. يرفعُ الفنان الألواح المثقلة بالوسائط المختلفة، ويضعها على لوح آخر. عملية مثل هذه لا تكفل وصول كل شيء إلى مكانه الجديد طبعاً. إنها خديعة مرسومة للورق المقوّى كي يتمزق في أكثر من اتجاه تحت ثقل الألوان والمواد التي سُكبت عليه. هكذا، يصبح طبيعياً أن تذكّرنا بعض الأعمال ببقايا معدنية لسفن غارقة كما في لوحات «تركواز» و«نحاس» و«ذهب»، حيث تكثر الأشكال الشبيهة بالشعاب المرجانية والنباتات البحرية التي تتحول مع مرور الوقت وتأثير الملح وتيارات الماء إلى أحافير مائية، بينما تكتظ لوحتان بعنوان «أرض» بالتضاريس والترسبات الناشئة من عمليات الأكسدة وامتزاج الماء مع عناصر التربة. الأعمال التي تذكرنا بتقنيات الحرفيين وأصحاب المهن اليدوية، لا تُنسينا أن صاحبها القادم من عوالم موسيقية أكثر رهافة، قد بذل مجهودات عضلية وعصبية في إنجازها. كأن الرسم بهذه الطريقة المرهقة يتضمن تفريغاً لطاقات وأفكار وطموحات لا تتسع لها الموسيقى التي هي «مسألة تجريدية قابلة للتأمل والصمت، في مقابل المادية الملموسة المطلوبة في فن الرسم»، يقول صاحب ألبوم «زارني» في سياق تفسيره للتأليف الذي تخضع له الموسيقى القائمة على هارمونيات متوافرة بطرق أخرى في الرسم. «إنهما يكملان بعضهما بعضاً»، يضيف ملتقى، الذي يوافق على فكرة أن التمزقات والالتواءات الموجودة في اللوحات هي تأويل آخر لتمزقات شخصية خرج بها من الحرب الأهلية التي هجّرته إلى فرنسا. رغم أنها غير متعمدة بالكامل، إلا أنه يستسيغ هذا الانطباع الذي يختزل جرحه الذاتي وجرح جيله أيضاً. يقول إن هناك صعوبة في تجاهل هذه الرضّات المختزنة في اللاوعي، وإن ذلك يحدث في تجاربه الموسيقية أيضاً. في المقابل، يمكن القول إن العودة إلى الجذور، وإعادة الاعتبار إلى «المنظر اللبناني»، فكرتان حاضرتان في المعرض. ربما يستدرّ ذلك عاطفة وغنائية سهلة، لكن الموسيقي الذي يقدم أول معارضه الفردية لا يسمح بالإفراط في ذلك. هناك جرح شخصي، ومحاولات لحجب هذا الجرح في الوقت نفسه. لعل فكرة «الحجاب» التي يحبها ملتقى لدى المتصوفة، هي التي تجمع أخيراً بين الموسيقى والرسم. هكذا، تصبح عبارة الحلاج «نظري بدءُ علّتي» التي يستعيدها أمامنا، دعوةً إلى رؤية ما هو محجوب في لوحاته.

«نار الماء». حتى 12 تموز (يوليو) ــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة) ــ للاستعلام: 01/868290



عودة إلى الجذور

قبل أن يصل إلى لوحاته الحالية. اشتغل زاد ملتقى أعمالاً زيتية واكريليك على كانفاس وتجريدات طبيعية.
كان الرسم يساعده في العثور على إجابات لا يحصل عليها في الموسيقى فقط. التنقل بين الممارستين جعل مؤلفاته الموسيقية تحظى بسند خفي قادم من الرسم. في الحالتين، كان هاجسه البحث عن مساحة يجمع فيها بين أمكنته الأولى وإقامته الباريسية، حيث يمكن «أن أعود إلى الجذور، وأتصالح مع الماضي والحرب»، كما يقول لـ «الأخبار».