في 26 أيار (مايو) 1993، سقط طاهر جاعوط قتيلاً برصاص مجموعة مسلحة وهو يغادر منزلَه في حي باينام، في الجزائر العاصمة. أسدل اغتيالُه الستار على عشرين سنة من العطاء الأدبي. لكن، للأسف، لم يكن آخرَ جريمة تستهدف الأدباء الجزائريين. لم ينته التحقيقُ فيه إلى شيء، فأُغلق ملفُّه رغم احتجاجات أسرته وأصدقائه.
وإلى اليوم، لا أحدَ يدري ما إذا كان عبد الحق العيادة ـــ أمير الجماعة الإسلامية المسلحة آنذاك ـــ هو الذي أمر المجموعة بتصفيته، أم أنّ القتلة غيرُ أولئك الذين بثّ التلفزيون الحكومي اعترافات أحدهم في أول حزيران (يونيو) 1993، موضحاً أنّ باقيهم «قُتلوا في اشتباكات مع قوات الأمن». لا أحد يدري، لكنّ عبارة «الأديب الذي اغتاله تاجر متجول بأمرٍ من سمكري» لقيت رواجاً كبيراً في الأوساط الصحافية والسياسية (ولخّصت بشكل بليغ طبقية نخبوية هي أحد أسباب الهوة السحيقة بين المثقفين وعموم الجزائريين).
دفع طاهر جاعوط، وهو لم يتجاوز الأربعين، ضريبةَ الدم عن آرائه التي لا نبالغ إن وصفناها بأنّها كانت معادية أشدّ العداء للحركات الأصولية. ساند إلغاءَ انتخابات ك1 (ديسمبر) 1991 النيابية التي فازت بها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وساجَلَ مناضلي حقوق الإنسان الداعين إلى التقيّد بالقوانين حتى في الحرب على الإرهاب. كان مقتنعاً كلّ الاقتناع بأنّ المعركة في الجزائر ليست بين الجيش والتيار الديني بقدر ما هي بين معسكرين لا سبيل إلى مصالحتهما، أو كما كتب في صحيفته Ruptures في 25 أيار (مايو) 1993 (عشية وفاته)، بين «العائلة التي تتقدم» و«العائلة التي تتقهقر». عبارةٌ أصبحت من الثوابت البلاغية للخطاب الداعي إلى استئصال الأصوليين عسكرياً و«تجفيف منابعهم الإيديولوجية» في المدرسة والإعلام وكل مكان. ورغم أن بعضَ هذه المواقف التقت مع مواقف قادة الجيش، لم يكن طاهر جاعوط من أساطين النظام الإعلامية. عاش الفترة العصيبة التي تلت إلغاء انتخابات ديسمبر 1991 من دون حراسة واغتيل أسفل شقته وهو يشغِّل محرّك سيارته العتيقة ودُفن في مسقط رأسه، في قرية أولخو الصغيرة (المنطقة القبائلية) بعيداً عن طبول الحدادات الرسمية ومزاميرها. من هذا المنظور، شتّان بينه وبين الأدباء المرتزقة، ممن يأتمرون بأمر الحاكم أيّاً كان، سواءٌ عندهم أَناهض الإسلاميين، كما في التسعينيات، أم حالفهم، كما في سنوات الألفين.
إذا استثنينا بعضَ الأبحاث الأكاديمية عن أعمال طاهر جاعوط، يبدو أن التزامَه السياسي بين 1992 و1993 هو جُلُّ ما بقي من ذكراه في بلده بعد عشرين سنة على وفاته، رغم أنه كان روائياً وشاعراً قبل أن يكون صحافياً، ومناهضتَه للتطرف الديني المهدِّد لحرية الإبداع والحرية إجمالاً كانت تنبع (رغم انطباعها بطابع سجالات التسعينيات العنيفة) من رفض فلسفي لكل المعتقدات التي تكبل العقل الجزائري، الغيبية منها وغير الغيبية، كإيديولوجية الحزب الواحد التي حوّلت «حب الوطن» إلى سلعة تباع وذريعةٍ للتشبث بالسلطة.
يصعب أن ننسى أنّ مقتَ طاهر جاعوط لـ«الإخوة الحراس» (كنية الأصوليين في «صيف العقل الأخير») لم يكن أقلّ عمقاً من مقته لنظام «حرمَ الجزائريين من ذاكرتهم» ونصّب نفسه قاضياً يحاكم من أفلت منهم من نطاق دوغمائيته كما تقول إحدى شخصيات روايته «السليب» (L’exproprié). كذلك، يصعب أن ننسى أن صاحبَ روايةLe dernier été de la raison عن صعود الحركات الدينية هو أيضاً مؤلِّف رواية «الباحثون عن العظام» (Les chercheurs d’os) التي تدور أحداثُها في مناخ شبه سوريالي من الهوس الرسمي والشعبي بالبحث عن رفات الشهداء بعد الاستقلال (1962). هوس حوَّلهم من أفراد ذوي ماض وخصوصية إلى أيقونات باردة وجعل أُسَرهم لا تتألم لفراقهم قدر فخرِها بأنّهم سقطوا في ميدان الشرف.
أصبح طاهر جاعوط نفسُه لدى البعض «أيقونة»، هو الذي كان يسخر من الأيقونات. لتبرير مواقفهم السياسية، بالغوا في الاستشهاد بما كتبه في الصحافة عن الخطر الأصولي، واختزلوا مساراً بدأ في 1973 في سنتين يتيميتن (1992 و1993). ربما آن الأوان، ونحن نحيي ذكرى وفاته العشرين أن ننسى مدير Ruptures ونلتفتَ إلى من يمكن اعتبارُه أحدَ مجددي الأدب الجزائري الفرنكوفوني الذي أسهم في جعله فضاء نقد للخطابات التسلطية، وأبدع في إطاره لغةً فرنسية تدوّي في أرجائها أصداءُ لغة الجزائر التاريخية، الأمازيغية. هذا ما ينفع الناس من ميراثه، وليذهب كل شيء غيرُه جُفاءً غيرَ مأسوف عليه.