نجيب نصير* أولاً وقبل كل شيء، أصبح واضحاً تماماً انفجار التفكير وتهتّكه في بلاد العرب. ومن الواضح أيضاً أنّ التاريخ حاسبنا وانتهى الأمر، ولم يعد هناك من أهمية تذكر لنقد هذا التفكير والعمل عليه مادةً ثقافية تصلح للاستهلاك البشري. فما حصل قد حصل، وآثار تهافته لم تعد خافية للعيان؛ فالفشل الأساسي الذي يمارس على أرض الواقع هو عدم تمكّن الأعاريب من تأسيس مجتمع بالمعنى العملي، أو حتى بالمعنى غير اللغوي؛ فإنتاج المجتمع بهذا المعنى، يحتاج إلى ممارسة ثقافة حقوقية واضحة ومرتقية، ينتجها تفكير غير مكبل، يستطيع أن يرقى إلى مستوى المسؤولية.

وهذا بالتحديد ما فشل الأعاريب في إنتاجه، ففشلوا في إنتاج مجتمع أو حتى مجتمعات، ووقفوا يطرقون باب اللغة علّه يفتح ذات مرة على ثقافة يمكن تداولها في عالم يمور بالتنافس الشرس على المكانة التي تعني أشياء هي غير الفخر والتشاوف، بأشياء لم تعد صالحة للتداول.
اليوم وقبل كل شيء، نرفل بعناد في كل أنواع الممارسة الثقافية التي تقود إلى الفناء الذي نرضى به فخورين، على أن لا نتنازل عن فخرنا – منجزنا الأكبر – الذي يقود إلى ثقافة حقوقية غير قادرة على توليد مجتمع. المجتمع الذي نعتقد أنّه موجود بالبداهة لمجرد إمكانية اشتقاق هذه الكلمة لغوياً، حتى وإن لم يفض الى إنتاج الشبع والمنعة، إذ يكفي وجود اللفظة كي نعمل تفكيرنا بها من دون النظر إلى تحقّقها في الواقع؛ فالمجتمع وجود عملي واضح ومعلن ومقنن، والتفكير فيه ينطلق من هذه القاعدة، وليس من تخيّل جنين إحتمالي، لا دليل على وجوده سوى اشتقاق لغوي، مقدس وديكتاتوري.
منذ ما يسمى عصر النهضة (1850) إلى يومنا هذا، والتفكير الأعاريبي ينتقل من نصر إلى نصر.
فمن الانتصار على عبد الرحمن الكواكبي، إلى هزم أبو خليل القباني، إلى القضاء على علي عبد الرازق وترويض طه حسين وإعدام أنطون سعادة (وغيرهم الكثير طبعاً)، والتفكير العربي يلهج بالهزائم المتكررة، حتى إنه لم يعد من لزوم لشنّ حرب خارجية عليه، فهو ينتج تدميره الذاتي بكل فخر واعتزاز، وينتج أيضاً عناداً خاصاً مضاداً لتوليد المجتمع البنية الوحيدة القادرة على إنتاج
دولة.
اليوم قبل كل شيء، علينا البدء بتفكير جديد، يتضمّن رفض القديم (اعتباراً من البارحة) لمجرد أنّه قديم.
فقد أثبت هذا التفكير (دموياً على الأقل) أنّه غير صالح لإنتاج ثقافة تنتج مجتمعاً ينتج دولة فيها مواطنون يعلنون هوية من إنتاجهم هم. اليوم وقبل كل شيء، علينا أن ننتج أبجدية صالحة للتفكير... والأسئلة كثيرة وواضحة. لقد قيل هذا الكلام مراراً وتكراراً، لكننا اليوم على عتبة الفناء، وليس لدينا ما نخسره، سوى أضغاث فخر قد لا تحمد عقباه.
* سيناريست سوري